عن "الروح الرياضية" خارج الملاعب
هل يستطيع الإنسان أن يكون حيادياً في مواقف الحياة؟ ولأيِّ درجةٍ يستطيع ذلك؟
مهما بلغ نجاحُ المرء في ذلك، أعتقد أنه لن يكون حيادياً في المواقف كلها التي تتطلّب ذلك؛ لأنّ لديه في دماغِهِ مخزوناً كبيراً من الثقافاتِ الموروثةِ والظروفِ المحيطةِ التي تمنعُه من ذلك. فإن كان حيادياً في مواقفَ، لن يكون في غيرها. وتعود درجة حياديته إلى مدى أهمية الموقف بالنسبة إليه، أو قرب الطرفين منه، أو مدى ارتباط الأمر بانتمائه الديني أو السياسي.
حين بحثنا عن أمرٍ مشتركٍ قد يوحّد العالم كلَّه تحت جناحه، لم نجد لا الإنسانية ولا الألم ولا الأخلاق، وكان الأمر المرجح هو الرياضة، وربما كرة القدم تحديداً، إلا أنه تبيّن أنّ هذه الأخيرة أيضاً، لم تستطع أن توحّد العالم تحت رايتها.
في التنافسات المختلفة تظهَرُ ميول الأفراد وثقافتهم، ومدى انتمائهم لبلدهم أو لفريقهم المفضل. وها هو مونديال كأس العالم في قطر، يظهر لنا إلى أيّ مفاهيم وأفكار تنتمي شعوب العالم. وفي حين كان من المتوقع أن تجتمع الشعوب تحت راية محبّة لعبة الكرة، إلا أننا وجدنا أنّ الانتماء الديني أو السياسي أقوى من أيّ ميلٍ آخر.
تجلّى هذا في قيام بعض أفراد غربيين بمقاطعة حضور كأس العالم لأنه أُقيمَ في بلدٍ عربيٍّ، متأثرين بانتمائهم العرقي أو الديني أو السياسي..، مظهرين بذلك مدى رفضهم للعرب، وعدم قبولهم لظهور بلدٍ عربي بهذا النجاح والتطور، وهذا على الرغم من أن بلدانهم تحظى بمنافع غير قليلة من البلاد العربية.
الروح الرياضية التي يُنادى للالتزام بها في الرياضة، غير موجودة خارج ملاعب كرة القدم
وكما ظهر خلال المونديال قوّة التفكير المتعصب للعرق أو الانتماء الحضاري أو الدين، ظهرت أيضاً قوة الانتماء السياسي، إذ مثلما نجدُ أفراداً يشجعون فريقاً ما لمهارته في اللعب أو لأسباب أخرى متعلقة برياضة كرة القدم، نجد أفراداً آخرين يشجعون فريقاً ما لأسباب سياسية، تتعلق بمدى العلاقة بين بلدهم وبلد الفريق الذي يشجعونه. وهذا بدا جلياً عندَ خسارة الفريق الألماني وخروجه من المونديال، إذ وجدنا كثيراً من الشامتين، لأسباب غير رياضية، بل من باب "كسرِ شوكة الألمان" مثلاً، أو التغلّب على الرجل الأبيض الأوربي المُعتز بتفوقه دائماً، والذي يعتبر نفسه محور الكون (على حدِّ تعبير بعضهم).
ولم يبتعد السوريون كثيراً عن ربط المونديال بالسياسة، بعد انتشار فيديو الطفلتين صبا وإيلاف، وهما تشكوان ألم البرد والفقر والجوع واليتم. حيث تعاطف الناس بداية معهما، ولكن سرعان ما انسحب التعاطف الإنساني لتحلّ محله التوّجهات السياسية، بعدما نُشرت صورة لطفلة في المونديال على أنها الفتاة ذاتها، تحمل علم الثورة، فانقسم الناس بين ساخط على فبركة الفيديو لإثارة التعاطف وتحقيق مصالح أخرى، باعتبار الفتاة تعيش في رفاهية طالما هي قادرة على الظهور بهذه الأناقة وتحضر المونديال في قطر، فتراجعوا؛ منهم بدافع ميلهم السياسي، ومنهم لأن في داخل سورية أطفالاً كُثراً يعانون الجوع والبرد والفقر واليُتم أيضاً. وهناك قسم آخر نفى أن تكون هذه هي الفتاة نفسها، وأعلن أنّ الطفلة تعيش في المخيمات وتقاسي شقاء الحياة وآلامها، ويجب مساعدتها.
المؤلم في الأمر أن ينسى الناس بسبب صورة في مباراة كأس العالم، الموضوعَ الأهم وهو معاناة الأطفال السوريين وضرورة إنقاذهم من الألم أينما وُجدوا، والانشغال بانتماء هؤلاء الأطفال، وكأنهم هم من اختاروا ذلك وليس أهلهم!
ربما لا يوجد شيء على هذه الأرض يمكن أن يوحّدَ البشر ويجعلهم يعمّرون الكون، لأن أنانية الإنسان ومصلحته فوق كل اعتبار، والروح الرياضية التي يُنادى للالتزام بها في الرياضة، غير موجودة خارج ملاعب كرة القدم.