عن تجربة القراءة
عزيز أشيبان
قد نتفق حول ضرورةِ التزامِ الموضوعية والتجرّد عند الإقدام على قراءةِ نصٍّ معيّن من أجلِ بلوغِ الانغماس في المعاني واستيعاب أفكار المحتوى وإنصاف العمل كله، بغضّ النظر عنْ من أنتجه. من المؤكد أنّ العملية ليست بالهيّنة، إذ تقتضي الوعي المسبق بالمجهود الواجب تقديمه، ونوعية العمليات المركبة والمتداخلة التي تكتنف التجربة كلّها، فضلاً عن ضرورةِ التحلّي بالصبر والتريّث والحذر.
حقيقةً، يظلّ فعل القراءة أمرًا صعبًا ومركبًا، حيث يمكن تحميل النص ما لا يحتمل من الإسقاطات من خلال تمريرِ ما تختزنه الذات من حمولاتٍ ثقافيةٍ، وذهنيةٍ، ونفسيةٍ، هو بريء منها، أو إسقاط ما تريده الذات من أحكامٍ مسبقة. من هنا، تظلُّ القراءة المأمول بلوغها هي القائمة على الانسلاخ من الذات، والانصهار في النص، بكلِّ موضوعيةٍ وتجرّد. فهل من الممكن تحقيق هذا التمثّل؟
من الطبيعي أن تحضر العوامل الذهنية والنفسية والذخائر الفكرية والمعرفية بثقلها في فعلِ القراءة ما دام المقبل عليه إنسانًا يحمل الزاد الثقيل من المشاعر والأحاسيس والتجارب المتراكمة، وتجري في دواخله صراعات داخلية لامتناهية، من قَبيلِ الصراعِ بين الوعي واللاوعي، الوجدان والعقل، الخير والشر، النزعة الروحية ونشاط الغرائز البدائية.. لكن ليس من الإنصاف أن تتحوّل هذه العناصر إلى مؤثّرات تَحولُ دون الانغماس الموضوعي في النصِّ، وربّما تنحو بالقارئ إلى إصدارِ الأحكام من رحمِ مؤثراته الشخصية، بعيدًا كلّ البعد عن ماهيةِ المادة موضوع القراءة.
تظلُّ القراءة المأمول بلوغها هي القائمة على الانسلاخ من الذات والانصهار في النص بكلّ موضوعية وتجرّد. فهل من الممكن تحقيق هذا التمثّل؟
ربّما نتفق على أنْ ليس كلّ من يقرأ نصًّا معيّنًا يوفّق في استيعاب معانيه بالضرورة، وهذا ليس استصغارًا له، أو إنكارًا لقدراته، أو مجهوده الجميل، وإنّما يعود الأمر إلى ما يَزخر به النص من عناصر مركبة، يلتقي فيها المنطوق باللا منطوق، وأبعاد النص، وطبيعة المصطلحات الموظّفة، ونوعية الأسلوب المستعمل. لذلك نظلُّ عرضةً للوقوع في عملياتِ الجزم والاختزال والتسرّع في إصدار الأحكام والتقييم، وربّما الشخصنة (إقحام شخص الكاتب في عملية القراءة)، ونجهز على أواصر التواصل مع النص بوصفه إنتاجاً فكرياً مجرّداً عن كلّ الاعتبارات.
ومع ذلك، فإنّ تعدّد القراءات واختلاف التأويلات تُضفي الجمالية على العمل الإبداعي وتمنح القارئ الحرية في الانخراط في حسنات المشاركة والنقاش وطرح الأسئلة والإغناء، لكن شريطة الابتعاد عن بناء تأويلات على أساس تأثيرات شخصية، أو اعتباراتٍ خارجية تُسيء إلى مضمون النص وتنسلخ به عن هُويّته.
قبل الانهمام في الخوضِ في قراءةِ مادةٍ معينةٍ، يجب أنْ يظلَّ الهدف الأساس والمنطلق هو محاولة فهم ماهية المادة عوض الانسياق التلقائي نحو ما يريد القارئ فهمه، أو صياغته تأويلاً، وعدم تحريف معانيها والنيل منها بسوء الفهم والتأويل. بعد القراءة الموضوعية يمكن الخوض في عمليات بناء النقد أو التحليل، لكن في وعاء التأويل الموضوعي الصرف.
ثمّة من يُقبل على النص ويظلّ تحت سيطرة سلطة الوجدان بعيدًا عن ماهيته، وغير قادرٍ على استيعاب مقاصده، ما دام العقل مغيّبًا، ولم ينكب بتاتًا على استيعاب النص ومساءلة عناصر محتواه. نعي جيّدًا مدى سلطة الوجدان التي تخضع لقوى غير حسيّة، صعبة الضبط والتكييف، وغالبًا ما تخوض في صراعٍ جدليٍ مع سلطة العقل، وربّما تتغلّب عليه باعتبار نقاط الضعف التي تنتاب الكائن البشري وتتحكّم في بناء تصوّراته وسلوكه وتشكيل ردود أفعاله.
تعدّد القراءات واختلاف التأويلات تضفي الجمالية على العمل الإبداعي وتمنح القارئ الحرية في الانخراط في حسنات المشاركة والنقاش وطرح الأسئلة
هناك من ينخرط في قراءةِ النص، ولا يتردّد في تنزيلِ حمولته الفكرية والنفسية والذهنية الشخصية، ويسترسل في قراءةِ عناصر خلفيته الذاتية، مبتعدًا عن معاني النص، ويكتفي فقط بالخوض في تكييفها مع معطياته النفسية والذهنية وزاده المعرفي، ليظلّ التجرّد بعيد المنال منهاجاً ونمط قراءة، فما بالك بالنجاعة والفعالية هدفاً من التجربة كلّها!
لن نجد من مثالٍ يجسّد ما ذكرناه من صعوباتٍ في الارتقاء نحو التجرّد والموضوعية في تجربة القراءة أفضل من معضلة الترجمة، حيث تضيّع في بعض الأعمال أمانة النص موضوع الدراسة وتنال من عمقه المعرفي وجماليته الإبداعية وتحرمه من الانتشار الواسع، والانتقال السلس من بيئةٍ ثقافيةٍ إلى أخرى.
يرتقي النص بنوعية قارئه والعكس صحيح. ومثلما نقرّ بوجودِ معاناةٍ وراء إبداع أيّ نصٍّ متميّز وملهم، نلح على ضرورةِ خوض القارئ في معاناةٍ موازية للانخراط في تأويل النصِّ والتفاعل معه وإغنائه.