عن سؤال الموت والوجود

20 سبتمبر 2023
+ الخط -

الناسُ للموتِ كخيلِ الطرادْ ... فالسابقُ السابقُ منها الجوادْ

والموتُ نقّادٌ على كفهِ ... جواهرٌ يختارُ منها الجيادْ.

هكذا روى مولانا الشاعر اليمني الراحل، عبد الله البردوني، عن الشاعر المصري، ابن النبيه. وأشدّد على النقل عن مولانا البردوني، لأنه يكثر من ذكر هذين البيتين في كتبه النثرية. 

ويكاد يكون البيت الشعري الثاني، هو لسان حالنا عند كلّ خبر فاجعٍ عن رحيل قريب أو صديق؛ لأنّ الموت لا يقتنص، من بيننا، إلّا أحسن الناس، مما يدفعنا للتساؤل: لماذا يرحل الأجود؟ هل الموت (جواهرجي) لا يختار إلا أجود الجواهر، كما أخبر ابن النبيه؟

يكاد هذا السؤال يكون سؤالاً وجودياً بلا إجابة، وخلاصته: إنهم يرحلون وكفى.

وأيّ رحيل؟ إنّه الرحيل الذي يتضاءل أمامه كلّ رحيل، إذ يلوّن الوجود في عينيّ المحزون بلون آخر لا عهد له به؛ فلا تلك السماء التي عهدنا، ولا تلك الديار، ولا شيء مما ألفناه.

في شعر منسوب لأبينا آدم عليه السلام، بعد مقتل هابيل، يقول:

تغيّرتِ البلادُ ومَنْ عليها ... فوجهُ الأرضِ مُغبرٌّ قبيحُ

تغيَّرَ كلُّ ذي طعمٍ ولونٍ ... وقَلَّ بشاشةَ الوجهُ المليحُ

وقد يكون قالهما، ولكن ليس بلفظهما بالطبع ولكن بمعناهما.

ظلّ الحزن هو الحزن، ما تغيّر منذ رحيل هابيل وحتى اليوم، أم أنّ الحزن النابع عن موت إنسان قد تغيّر، كما تغيّر كلّ شيء في حياتنا المعاصرة؟

إذ هل يُعقل أن يتكلم آدم العربية حتى يقول شِعراً بالعربية؟

بحوث كثيرة قديمة وحديثة دارت حول لغة آدم، لعلّ أشهرها حلقة لمصطفى محمود من برنامجه الشهير "العلم والإيمان" بعنوان "اللغة التي تكلم بها آدم"؛ ذهب فيها إلى أنّها العربية. وهذا له حديث في مقالات قادمة.

وأيّاً كان صدق نسبة الأبيات لأبينا آدم من عدمها، فالشاهد منها هو التغيير الذي يحدثه الموت في الأحياء، ونظرتهم للوجود من حولهم.  

***

كم غاب هذا الراحل من قبل عن أعيننا، غير أنّا كنّا على أمل أن نراه في قابل الزمان، فكيف بغيبةٍ لا عودة منها؟  

قال المتنبي:

وَإنّ رَحِيلاً وَاحِداً حَالَ بَيْنَنَا ... وَفي المَوْتِ مِنْ بَعدِ الرّحيلِ رَحيلُ.

أقول هذا الكلام، وأنا أتساءل: ما قيمة أيّة كلمات حيال مصيبة الموت؟ لا قيمة! مجرّد تجميع حروف، نقولها أو نرَقْمها على صفحة الكتابة، أيّ صفحة، لكنها لا تفعل شيئًا، فنحن نكتبها أو نقولها، فقط، لأجل أن ننفّسَ لواعج الحزن التي تجتاحنا. ومع ذلك، يظلّ الحزن هو الحزن، ما تغيّر منذ رحيل هابيل وحتى اليوم، أم أنّ الحزن النابع عن موت إنسان قد تغيّر، كما تغيّر كلّ شيء في حياتنا المعاصرة؟ ربّما، صار حزناً عادياً، وصرنا نعيش "يوميات الحزن العادي"، كما سمّاه محمود درويش.

كلّ هذا الضجيج الذي يثيره الإنسانُ في أدوار حياته، تخمده ثلاثة أحرف:  مات!

زاد في ترويضه كثرة أخبار الكوارث المتلاحقة التي تتحفنا بها القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، كلّ يوم، بل كلّ نشرة تقريباً.   

أقول: ربّما صار الأمر كذلك، وساعد عليه، أيضاً، انشغال الناس في دوامة الحياة المعاصرة في تعقيداتها على كلّ الأصعدة، بحيث ينسى المرء كلّ ما يجري حوله، وهو في ماراثون البحث عن لقمة العيش، ما جعله روبوتاً يتقبّل كلّ خبر، بلا استغراب ولا استجابة! 

أمّا أنا، وعلى الرغم من كلّ ما ذكرته سابقاً، فلا يزال خبر الموت يهزّني من أعماقي، فمجرّد ورود الخبر عن موت فلان من الناس، خصوصاً لو كان قريباً من النفس، أو ممن جمعتني به عشرة ذات يوم، فإنّه يصيبني بالذهول أمام قصة الحياة التي نعيشها، ويجعلني أتوقف كثيراً أمام هذا الوجود الذي يتراءى، آنذاك، كالسراب، أو كصورة هولوغرامية في الفضاء.

إنّ هذا الخبر هو الختام لكلّ هذا التوق الذي يملأ نفوسنا للجري في هذه المعمعة المسمّاة الدنيا، وبعده تلفنا هدأةُ الصمت، وكأنّ شيئاً لم يكن.

وهكذا، فإنّ كلّ هذا الضجيج الذي يثيره الإنسانُ في أدوار حياته، تخمده ثلاثة أحرف:  مات!

فسبحان من له الدوام.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري