عن طفلة "تحبّ" جدار الصوت!
هلا نهاد نصرالدين
"أنا كتير حِب جدار صوت"، تقول ابنة أختي آية، طفلة الأربع سنوات، التي لم تكن قد سمعت في حياتها أصواتًا أعلى من صوت التلفاز أو الهاتف الذي تشاهد عليه برامجها الكرتونية المفضّلة مثل Peppa Pig وBluey. إلا أنّ هذه الطفلة الصغيرة التي لم تكتمل مفرداتها بعد، والتي لا تزال تختصر كلمة "بحب" إلى "حِب"، أصبحت تعرف جدار الصوت وتعرف كيف تلفظ اسمه. وكلما ارتعدت من الخوف بسبب الصوت العالي، باتت تردّد: "أنا كتير حِب جدار صوت"، وكأنها وجدت في هذه العبارة وسيلة للتأقلم مع الخوف الذي يرافقها.
ولكنّني في الكثير من الأحيان أراقبها، وهي تارةً تقفز من الخوف عندما تسمع الصوت، وطورًا تغلق أذنيها عند سماع أصوات جدارات الصوت العالية، ولكنها تستمر في مشاهدة برامجها المفضّلة على منصّة يوتيوب دون أن تشيح بنظرها عن الشاشة. يبدو أنّ هذه الطفلة الصغيرة قد طوّرت آلية دفاعية خاصّة بها للتعامل مع واقعٍ مليء بالأصوات المرعبة. أمّا عندما تخاف أمها من الأصوات، فتحاول آية التخفيف عنها وتقول لها: "ماما ما تخافي you are a big girl".
لمن لا يعلم، جدار الصوت هو ظاهرة تحدث عندما يصل جسم متحرّك إلى سرعة تساوي أو تتجاوز سرعة الصوت، ممّا يؤدي إلى تكوين موجة صدمية تُسمع كدوي قوي كالانفجار. "جدار الصوت" هو أحد الأساليب الذي يستخدمها العدوان الإسرائيلي في حربه النفسية على لبنان، وذلك عبر تحليق الطائرات بسرعةٍ تفوق سرعة الصوت على ارتفاعٍ منخفض، ممّا يتسبّب في دويٍ هائل يهزّ المباني ويؤدي أحيانًا إلى تحطيم زجاج النوافذ.
شقيقة آية الكبرى، فرح، التي تبلغ من العمر عشر سنوات، سمعتُها مرّة تتحدث في إحدى الجلسات عبر الإنترنت عن انفجار مرفأ بيروت. كانت تروي تفاصيل لم نكن نحن، أهلها وأنا، نعلم أنها تتذكرها أو حتى عاشتها بهذا الوضوح؛ فعند وقوع الانفجار لم تكن قد تجاوزت السادسة من عمرها. اليوم، تربط فرح أصوات جدارات الصوت والغارات الإسرائيلية بانفجار المرفأ، وكأنّ تلك الأصوات تعيد لها ذكريات محفورة في ذاكرتها الصغيرة.
فرح التي عاصرت أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ وتشهد اليوم مجازر غزّة ولبنان، تطلب منا بين الحين والآخر التوقف عن الحديث عن الأخبار الحزينة
منذ نحو عشرة أيام، كانت بنات أختي الثلاث: فرح وجنى وآية، في مدرستهن في منطقة عاليه عندما سمعن صوت ضربة قوية استهدفت سيارة على طريق قريب من مدرستهنّ. أمضين بعدها ساعة ونصف في محاولة العودة إلى المنزل الذي يبعد نحو 13 دقيقة فقط بسبب إغلاق الطرقات. وبعدها مباشرةً. ورغم امتناني لاستمرار تعليمهن في هذه الظروف، إلّا أنّ أكثر من مليون طفل في لبنان محروم من التعليم تمامًا، وكأنّ التعليم أصبح امتيازًا وليس حقًا.
فرح التي عاصرت أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ وتشهد اليوم مجازر غزّة ولبنان، تطلب منا بين الحين والآخر التوقف عن الحديث عن الأخبار الحزينة. أما جنى، الابنة الوسطى، فقليلًا ما تعلّق على ما يحدث حولها، بل تقفز وتهرع عند سماع صوت "الجدار" وتكتفي بالاستفهام عمّا إذا كان الصوت نتيجة غارة أم "جدار"؛ وتسأل أهلها، هل سيستهدفون منطقتهم؟
رغم كلّ ما نعيشه ونراه، تبقى هذه التفاصيل صغيرة أمام ما يعانيه الأطفال الذين يُقتلون تحت القصف أو يُشوهون أو يصبحون يتامى. فنشاهد أطفالًا ينتحبون فوق جثث أهلها، ويمسكون بأيدي آبائهم ويقبّلون رؤوس أمهاتهم الذين سقطوا ضحايا إجرام الاحتلال الإسرائيلي!
منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 وحتى 31 آب/ أغسطس 2024، قُتل أكثر من 14,100 طفل في غزّة، وفقًا لمنظمة "Save the Children". وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، أفادت "اليونيسف" أنّ آلاف الأطفال فقدوا أحد أطرافهم أو كليهما. كما أنّ مليون طفل من بين 1.9 مليون فلسطيني نزحوا من منازلهم منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وأصبح ما لا يقل عن 19 ألف طفل يتيمًا أو بدون مقدّم رعاية.
أمّا في لبنان، فقُتل أكثر من 165 طفلًا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وأُصيب نحو 1,170. وذكرت منظمة اليونيسف أنّ طفلًا واحدًا على الأقل يُقتل كلّ يوم في الحرب المستمرة على لبنان منذ 4 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2024.
أيّ حاضر يعيشه أطفالنا في المنطقة؟ وبأيّ ذكريات يحتفظون؟ وأيّ مستقبل ينتظرهم؟
فكيف سيكبر هؤلاء الأطفال؟ ومع أيّ ذكريات؟ ومن سيقنعهم لاحقًا بأنّ الحياة ممكن أن تكون جميلة؟ وهل حقًا "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"؟
صديقي الفلسطيني الذي وُلد وعاش حياته كلها في لبنان بما يسمّى "وثيقة سفر فلسطينية" تزوّج من لبنانية وأنجب طفلين. لكن بسبب القوانين اللبنانية الأبوية التي تميّز الرجل عن المرأة بالإضافة إلى الحسابات الديمغرافية والطائفية، لا تستطيع والدتهما اللبنانية منحهما جنسيتها. وهكذا يعيش طفلاه أيضًا بوثيقتي سفر في لبنان.
صديقي أصله من عكا في فلسطين، وما زال يحتفظ بمفتاح منزله، ولكنه وُلد في لبنان وعاش في مدينة صور جنوب لبنان حتى تهجّر منها بعد القصف العنيف عليها في الأسابيع الماضية. قُصفت أرضه الجميلة، ولا يعلم شيئًا عن مصير منزله هناك!
أطمئن عليه وعلى عائلته الجميلة بين الحين والآخر، خصوصًا بعد أن علقوا لفترةٍ تحت القصف في صور خلال الحرب الإسرائيلية المدمّرة على لبنان. وفي إحدى محادثاتنا سألته عن أولاده فقال لي مازحًا: "أنا ولادي صاروا يعرفوا إذا ضربة أو جدار". احترت حينها بين الضحك والبكاء؛ فمأساة الفلسطينيين تلاحقهم أينما كانوا.
أيّ حاضر يعيشه أطفالنا في المنطقة؟ وبأيّ ذكريات يحتفظون؟ وأيّ مستقبل ينتظرهم؟
كلّ يوم يحمل معه المزيد من الضحايا والمزيد من الألم لأطفال أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا في منطقة كُتب عليها أن تنزف دماء أبنائها بشكلٍ مستمر!