عن قسوة الفراق
كتابة مرتبكة!
قبل أيام، تُوفي الشاعر العراقي كريم العراقي، وبعد أيام تحلّ ذكرى وفاة أبي الرابعة. لم أكن أعرف من شعر كريم غير الذي غناه كاظم الساهر. وضعت اسمه على محرك البحث فوجدت وجها آخر له. وللأسف، لم أكن لأكتشفه لولا سبب الوفاة.
كان مما وجدته قصيدة يتناول فيها الأب من زاوية غير المديح الصريح. ورغم الشوق إلى والده، إلا أنّه وصفه بالعصبي الذي أورثه الحزن. في البداية، استهجنت هذا الوصف للأب بسبب موته، لكن عندما أكملتها وجدت فيها بعض من السلوان وردّ الاعتبار لهذا الأب، وتنفيساً من الابن عن معاناته معه.
تقاطعت معي القصيدة ومسّتني، وكسرت عندي حواجز نحو تجاوز الألم، ونحو عدم الشعور بتأنيب الضمير ناحية الذكرى، والتصالح، بين الفقد والافتقاد للأب ومحاولة التصالح مع "التروما" والقسوة كلّما تذكرته. اليوم أستطيع الكتابة عنه، منطلقاً من شعر كريم..
آهٍ كَمْ أَشتاقُ أَيامَ أَبي
رُغمَ ما فيها من الهمِّ وطولِ التعبِ
ذلك الرجل الرهيبُ العصبيُّ العصبي
إِنه أورثني الحزنَ ولكن..
مَدّني بالعزمِ والعزةِ والصبرِ الأَبي
فحملتُ العبءَ طفلاً ودموعي لُعبي
وبكى حينَ رآني ناجحاً
ورضى عينيهِ أطفأ تعبي
إنما كانَ أبي..
قاسيَ الوجهِ ويُخفي نهرَ حُبٍ عذبِ
قلبهُ قلبُ صبي
صبرُهُ صبرُ نبي.. رحم الله أَبي
"وآباءكم جميعاً".
آه كم أشتاق يا أبي
نعم أنا مشتاق، لأنّ الموت لم يسعفنا، لمحاولة التعويض وتجاوز الماضي وآلامه. زارني أبي عندما كنت مقيماً في الدوحة، لمدة 6 أشهر، كنت لم أره منذ سنين. أسرني بكلمة مسحت عنّي الكثير من الأسى: "أنا مستغرب معاملتك معايا، رغم كلّ الي عملته فيك".
قاسي الوجه
ابتسامته نادرة، وأفعال حنانه قليلة، لكنها كانت ذات أثر عميق، يجعلني وأنا أتذكره أقول يا ليته زادها. لكن الموت لا يقبل ليت.
وهذا يجعلني أستغرب وأستنكر ولا أستوعب الآباء والأمهات الذين حباهم الله بنعمة البنين والبنات، كيف لهم أن يكونوا مع نور الحياة مظلمين؟! ثمّ يستعجبون قسوة الأبناء بعد ذلك! ثمّ الأبناء الذين، خاصة مع كبر أعمار آبائهم، يمعنون في القسوة عليهم أحياءً وأمواتاً.
كان له نهر حب عذب
أتفهم الحياة وقسوتها وجبروتها وتقلّبها ومسؤوليتها، وتأثيرات ذلك علينا، لكني لا أتفهم إخفاء نهر الحب العذب. مات أبي وحيداً وله 14 ابناً وبنتاً على قيد الحياة، تفاوتوا في ردود أفعالهم تجاه موته، كما كان اندفاع نهره متفاوتاً تجاههم.
قبل عامين حاولت الكتابة: "و"تندهني النداهة" أن أذهب إلى "ويستن"، سرت منقاداً بعد نهاية عملي إلى هناك، وكلّما كان وقت دوامي يوشك على الانتهاء كنت أشعر بانقباض في قلبي.
ذهبت إلى هناك دون أنيس، وفي آخر الوقت، وجدتني فجأة أقف أمام المكان الذي أتاني فيه خبر موت أبي في نهاية سبتمبر/ أيلول 2019.. وتذكرت، ومرّ شريط طويل أمامي، وقفت صامتا أتمالك دموعي.. كنت أودّ أن أجد المقعد الذي كنت أجلس عليه حينها، لأستكين.
لم أذهب إلى هناك منذ زمن. كنت وكأنّي أزور قبر أبي وأشتكي له منه، ولماذا تركني دون أن أنهي معه كلّ الماضي العالق بيننا، لأفتح معه صفحة جديدة أشتكي فيها من واقع حاضر وأناقش معه المستقبل.. رحلت يا أبي وتركت لي بقايا ماضٍ، ومنفى طويل الأمد، ولا أعلم متى أعود منه لأزورك، فسامحني إن تذكرتك وزرتك في هذا المكان!
رحلت يا أبي وتركت لي بقايا ماضٍ، ومنفى طويل الأمد، ولا أعلم متى أعود منه لأزورك
هذا المكان هو "بار"، ربما لا يدخله الله، وبكلّ تأكيد لن يدخله أبي، لكني أثق أنه ترك لي عيناً فيه. كان أبي دائما يدعو لي عند نهاية كلّ مكالمة بيننا: "اللهم أحسن خاتمتك وخاتمة من تحب".
كتب أحد أشقائي بعد موت أبي: "حين مات أبي توقفت عن لومه.. حين مات أبي شعرت بأثقال على ظهري.. حين مات أبي استمعت لسورة الكهف، كان يقرأها كل يوم جمعة.. حين مات أبي استمعت لموسيقى صاخبة..
حين مات أبي حلمت بأنه قد مات ولم أكن أعرف بأنه مات. أخبرت صديقتي عن الحلم، حين مات أبي حلمت بأن صديقتي توقفت عن الكلام معي.. حين مات أبي لم تكلمني صديقتي..
حين مات أبي كان بعيدا جدا.. ولم أعرف إلا بعد حلمي بيومين من الإنترنت.. حين مات أبي كان وحيدا جدا.. حين مات أبي لم تكن هناك صور تجمعنا.. حين مات أبي لم أشرب الخمر..
حين مات أبي لم أودعه.. حين مات أبي سامحته.. حين مات أبي بكيت..".
أحبّوا آباءكم وباركوا مفارقيكم، فلا يعلم أحد كيف سيمرّ الوقت إلى حين التعوّد. والموت أو الفراق ينسيك القسوة ويذكرك بالحلو ولو كان قليلاً، ولكن ليت حين لا ينفع الندم، لا تفيد. الفقد مرّ في كلّ حالاته، الفراق قاس. وهذا ينطبق على كلّ العلاقات.
رحم الله كريم العراقي ورحم أباه وأبي وآباءكم أجمعين... واللهم أحسن خاتمة أرواحنا.