عوالم السياسة والمواضعات اللُّغويَّة
بات عالم السياسة بكلّ حيثيّاته يحمل في معانيه جملة من التصوّرات والمفاهيم والرؤى والمقترحات المدروسة والمنظمة في إطار منطقي حول الواقع السياسي، تُترجم تلك التصوّرات، بطبيعة الحال، على هيئة خطاب موجَّه، ويمكن أن يكون هذا الخطاب محكيّاً أو ترميزياً سيميائياً أو غير ذلك من صور الخطاب.
وبشكل عام، فإنَّ ما يرتبط بعوالم السياسة من خطاب سياسي هو، بالضرورة، أيديولوجية تتخذ من المعطيات الواقعيَّة والافتراضية أيضًا وسائل توجيهيَّة، ويعتمد الخطاب السياسي أيضًا على ترسانة من المفاهيم والتعبيرات الثقافية المؤطّرة بالانتماءات المرجعية المحدّدة والواضحة، وعليه، فإنّ الخطاب السياسي يأتي محدّداً للعلاقة بين قطبين، هما الحاكم والمحكوم، فهو توظيف لأفكار قد تكون دعماً لوجهات نظر معينة، وقد تكون متعارضة مع تلك التوجهات.
لا شكَّ أنَّ التنمية السياسية المترتبة على حركة الوعي في الإطار العام للسياسة لها أهميَّة كبرى على الأصعدة المختلفة، سواء أكانت الاجتماعية أم الاقتصادية... وتمتد أهمّيتها إلى أكثر من ذلك لتصل إلى اللغة أيضًا، حيث إنَّ مسألة صناعة الوعي السياسي التي تبنّتها مؤسسات صناعة الفكر والوعي النقدي تلعب دوراً فاعلاً في تشكيل التنمية السياسية، وهي بذلك تعمل على صياغة مخيال جماعي واعٍ بما يحدث حوله، تكمن نقطة الحسم في تحقّق الوعي جرَّاء عمليَّة التنمية المتنامية والمستمرة، إذ يعتبر الوعي العمود الفقري الذي نركن إليه في عملية صناعة جيل قادر على تشكيل مجتمعات مهمة ذات مكانة مرموقة بين نظائرها.
تبحث الجماهير عن الحقائق وتلهث وراء محاسبة الأنظمة الحاكمة التي تتسبّب في تسييس الواقع وإخضاعه لها حسبما تريد
في هذا الإطار، تتموضع اللغة متخذة من الخطاب السياسي وسيلة معالِجَة لأشكال الصراعات الخطابية بين الشعوب والسلطات الحاكمة، كذلك تساهم في وصف الصراعات بين الشعوب والاستبداد بكافة أشكاله وألوانه، سواء أكان مصدره حكماً مدنياً أم احتلالاً عسكرياً، بالتالي تعتبر اللغة من أهم المقومات التي تلعب دوراً بارزاً في الخطابية السياسية التي تستنجد بها الشخصيات التي تعيش في واقع ديكتاتوري. ومن جهة أخرى، تُستخدم اللغة كأداة وموجِّه بالنسبة للساسة؛ إذْ إنَّهم يصوغون خطاباتهم للإعلام والجمهور كلّ حسب موقعه، بحيث يضمنون الحفاظ على الاستقرار والهدوء النسبي.
تبحث الجماهير عن الحقائق وتلهث وراء محاسبة الأنظمة الحاكمة التي تتسبّب في تسييس الواقع وإخضاعه لها حسب ما تريد، وبما يخدم مصالحها، ولكن مغزى الحديث هنا هو النظر في الطريقة التي تتبعها الشعوب ممثَلة بالجماهير في مطاردة الفساد الناتج عن تلك السلطات الحاكمة؛ إذ إنّنا غالباً ما نلحظ أنّ الجماهير لا تهتم بالبحث عن الأدلة والبراهين، إنما تنظر في الواقع في إطاره العام وتسعى إلى محاكمة السلطات على أساسه، فكثيراً ما نجد تلك الجماهير تستخدم اللغة في صورة خطاب مؤطَر للتعبير عن حاجاتها وانتقاداتها.
وهذا الخطاب إنْ تبنَّته جماعة أو عدد لا بأس به من أفراد المجتمع؛ فبالضرورة سيكون له تأثير كبير على صناعة القرار بعد توجيه الوعي بالحقوق والواجبات. فعندما ننظر في ردود فعل الجمهور تجاه قضية معينة، في أكثر الأحيان سنجد الواحد منهم مؤثراً في الآخر وهكذا دواليك.