غزّة.. بين رومانسيّتي الهدوء والخراب
قرأتُ قصيدةً للشاعر الفلسطيني، محمود درويش، يقول في مطلعها:
"يا أيّها البطل الذي فينا انتصر..
أنت أدرى بالزمان،
وأنت أدرى بالمكان،
وقوّة الأشياء فينا".
لم أكن لأتخيل يومًا إنّ كان بإمكان الزمان أن يتقولب في قصيدةٍ؛ ليعيشَ المرءُ فيها ساخطًا أو قانعًا لا يهم، الأهم أن يستمرَ ليعيش. أيّ غزّة تلك التي تريدون منّا أن نكون فيها؟ وهل لرأي المُتفرِّج شرعيّة أمام كلّ هذا الوجع؟ ولماذا يُمنع الغزيّ ويُطارد في حال قرّر إبداء رأيه؟ ولماذا تُناقش وتُحلّل قضايا غزّة بمعزل عنّا نحن الغزيين؟ لماذا تُقمع آراء شباب غزّة وباحثيها ومفكريها وكتّابها في المساحاتِ الكلاميّة الشاسعة؟ لماذا لا تأخذ غزّة فرصتها الحقيقية الموضوعية النزيهة في رواية نفسها؟ لماذا لا يأخذ شبابها فرصةً لروايةِ ما يفكّرون به ضمن سياقاتهم التي يختارونها؛ خاصّة مع وجود آلاف الشباب الغزيّين في الخارج الذين يستطيعون أن يكونوا حاضرين في هذه المساحات؟ أم أنّ الصورة النمطية والسياسية التي يُراد لغزّة أن تكون عليها لن يُغنِّي بها شباب غزّة كما يُريد المُخرِجون!
لم يَطلب الغزيّون من أحد أن يأخذ منهم حقّ الكلمة، وحقّ التعبير، وحقّ الرأي، وتشكيل المعارضة أو الموافقة، كما لم يطلبوا من أحد أن يحدّد مصيرهم بالنيابة عنهم. فعلى الرغم من كلّ ما مرّت به غزّة على مدار سنواتٍ طويلةٍ، من حصارٍ وحروبٍ وقهر؛ لا تزال تضم مجتمعًا صحيًّا يحاول التعافي والتحدّي والبحث عن فرصٍ للحياة، كما أنّ الناس في غزّة متنوّعون، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ولا يشكّلون رأيًا واحدًا ولا لونًا واحدًا، ولا خطًّا سياسيًّا وأيدولوجيًّا واحدًا.
الناس في غزّة متنوّعون، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ولا يشكّلون رأيًا واحدًا ولا لونًا واحدًا، ولا خطًّا سياسيًّا وأيدولوجيًّا واحدًا
كما لم تطلب غزّة وأهلها الذين تجري إبادتهم على مرأى من العالم ومسمعه، من أحد أن ينشر صور أهلها وهم جوعى، نازحون، مشرّدون، مفطورو القلوب مع موسيقى درامية حزينة عبر منصّات التواصل الاجتماعي، ولم يطلبوا نصائح عن الصمود والتحدّي والبطولة والشعارات الوطنية الرائعة.
نحن نؤمن بأحقيتنا في وطننا قبل أيّ أحد، ونعرف أنّنا نحبّ وطننا كما لم يحبّه أحد، ونضحي في سبيله كما لم يضح لأجله أحد، ولا يمكن أن تكون الصورة المؤدلجة والعبارات المنمّقة حاضرة خلال حرب الإبادة البشعة هذه، حرب لا تفرِّق البشر عن الحجر، كما لا يمكن طرح الترف الإعلامي وغيره في ظلّ مأساةٍ مستمرة. هذه الشعارات تُعفي قائليها من المسؤولية تجاه غزّة، وتتجاهل الحاجات الأساسية للدعم والإسناد والانخراط في مسارٍ سياسي، اجتماعي وشعبي، لتعزيز صمود الغزيين بشكلٍ حقيقي وفعلي. نعم، إنّ غزّة لم تطلب من جمهور المتفرجين أن يصنعوا من صور أوجاع الغزيين أساطير، ولم تطلب منهم أن يغنّوا لرواياتٍ سياسية ما، ليشعروا بالأمل والتحرّر على حساب أبنائها المُبادين داخل القطاع، بينما هم يأكلون ويشربون.
ولا أعرف بالضبط كيف تحوّلت آلام الغزيين إلى مجموعةٍ من التريندات التي أخذت بالانتشار، مثلاً تريند "لا تعتادوا المشهد"، إنْ أردنا تفكيكه في سياق الإبادة الوحشية فهو لا يدل إلّا على جهلٍ واضحٍ، حيث يعتبر الكثيرون هذه الحرب مجرّد مشاهد من فيلم، متجاهلين أنّ اعتياد الصورة وعدمه لا يؤثران على قراراتِ داعمي الإبادة.
الكثير من العمل هو ما يوقف الحرب، لا الكثير من الصور والمنشورات
وعلى الرغم من حالة الحصار والحرب، فقد ساد الوعي بين شباب غزّة بأنّ الحصار لم يعدْ مبرّرًا مع توفّر وسائل التواصل والتطوّر التقني، والوعي أكثر بأنّ ثمّة عالم اتفق على كتم صوت غزّة، وإنْ اتفق بعضهم مع غزّة وعمل على مناصرتها، فَهُم ثلّة من الشباب المبدع، الناشطين على مواقع التواصل، الذين لا يعملون ضمن أطر صحافية رسمية تقليدية، بل يستخدمون الأدوات الحرّة الشخصية وغير النمطية في توظيف مهاراتهم. أي إنّه ليس لدى هؤلاء أيّة صفة محدّدة أو تبعية سياسة تحريرية، ولا يلعبون دورًا في ترسٍ إعلامي معيّن. وإنّما ينقلون الصورة كما هي ويعملون على إظهار المعاناة ونشر الخبر من الميدان بلغاتٍ مختلفة.
هذا الجهد البارز الذي يقوم به الشباب، وهذه العفوية في نقل الصورة وبعض آراء الناس في غزّة، لم تُعجب جمهور السياسيين والمتفرجين، إذ يُطلب من غزّة، وفقًا لقوالب الإعلام العربي التقليديّة، تطبيع الصورة والصوت على آذان الجمهور المُشاهِد، وإقناعهم بأنّ هناك جيشًا كبيرًا في غزّة يقوم بالواجب عنهم، ولا أعرف بالضبط هل فلسطين خاصة بغزّة وحدها، وعليه فقد جرت برمجة العقول والفضائيات كلّها، أنّ واجب غزّة أن تكون أسطورة صامتة مُبادِرَة على الدوام!
إنّ ما يوقف الحرب ويعزّز صمود النازحين في غزّة في خيمٍ لا تقي حرّ الصيف ولا برد الشتاء، ولا الجوع والتشرّد والقهر.. هو العمل والتظاهر والضغط، وأساليب النضال في الشارع، ونشر الحقائق، والتضامن الفعلي غير المبني على الصورة، بل على التواصل الشعبي والسياسي، بأنّ هناك شعبًا جرت إبادته وتدمير ممتلكاته وتشريده بالملايين.
وأخيرًا، إنّ ما يوقف الحرب الكثير من العمل لا الكثير من الصور والمنشورات.