"غوطة دمشق"... صور الألم والأمل
من المهم العمل على توثيق أحلام الناس وآمالهم وتوثيق أحداث كانت استثنائية في ظروفها ونتائجها، ومن المهم جعلها، ليست فقط حاضرة في نفوس الأفراد وعقولهم فحسب، وإنّما نقلها إلى أجيال مقبلة هي بحاجة إلى معرفة جانبٍ من الحقيقة، جانب ممّا جرى في سورية، حيث شارك جزءٌ كبيرٌ من شعبها في الربيع العربي إلى جانب شعوبٍ أخرى في دولٍ يحكمها الظلم والاستبداد.
تسرد راوية "غوطة دمشق" (Le verger de Damas)، حكايات العديد من الشخصيات، وتنقل جانباً مما حدث قبل مظاهرات الشعب السوري وخلالها، وسعي هذا الأخير إلى تغيير السلطة الحاكمة التي أعلنت الحرب ضدّ كلّ من عارضها. لقد حاولت الكاتبة كامي نوفو (Camille Neveux) أن تنقل صوراً من مدينة داريا، ومن بلد تحكمه سلطة ديكتاتورية تعمل على قولبة تفكير التلاميذ، وتفرض سلطتها وشعاراتها المطلقة على المجتمع وناسه.
تشدّ شخصية "عيسى" انتباه القارئ، ذاك الفتى الذي كان يبحث عن مؤسّسات ترعى جذور فكره الناقد والثائر، فما وجدها كما تمنّى، فثار على غيابها. لقد نما عيسى ضمن مؤسسات يسيطر عليها فكر حزب البعث الواحد والجامد، وصاحب الحقيقة المطلقة التي لا تقبل نقداً، ولا تجاوزاً، حزب يريد من الجميع أن يستسلم لما تقوله السلطة الحاكمة. لذلك، حاول عيسى الثورة على الأفكار المغلقة ومناهج التلقين، وثار أيضاً على سلطة رجال الدين، متبنّياً أفكاراً وسلوكيات ترتبط بحرية الفكر وأهمية العمل الديمقراطي والمدني. ثمّ إنَّ مشاركة عيسى في تنظيم الحراك المدني المطالب بالتغيير السلمي للسلطة الحاكمة في داريا كلّفته الكثير من الألم والمعاناة والقلق والتنقّل وعدم الاستقرار. خَسِرَ الكثير، ونجا من مذبحة نظام الأسد من دون أن ينجو تماماً بحسب ما انتهت إليه فصول الرواية وأحداثها.
يبقى أمل السوريين كمثل "غوطة دمشق"، وكمثل شجرة تنبت باستمرار ومن جديد
هناك حضور قوي لأخت عيسى واسم شخصيتها "فلة". هي سيدة شاركت لمرّة واحدة في مظاهرة سلمية في داريا، مقتنعةً بأهمية تغيير هذا الظلم والفساد المحيطين بها وبناسها، فتمّ اعتقالها لمدّة ثلاث سنوات هي وجنينها، بالإضافة إلى زوجها. نعم، لقد خرجت "نرمين" من رحم أمها الدافئ والحنون، لتجد نفسها في سجن صغير، مظلم ومخيف، بارد شتاءً وحار صيفاً. لقد بقيت في السجن مع أمها، من دون أن تكتسب معنى السماء والشمس والقمر وكيف يكون شكل الأزهار وعطرها وأغصان الشجر وأوراقها. نتج عن ولادة فلّة لضناها الكثير من الألم والمعاناة والفقد، وتخلّل نمو ابنتها في السجن العديد من صور القهر والذّل التي تعجز رواية واحدة عن نقلها كما عاشها أصحابها بأنفسهم. أمّا في ما يخصّ زوج فلة "ماجد" وحول ما عاناه خلال اعتقاله لسنواتٍ طويلة وحتى ما بعد الإفراج عنه، فأترك للقارئ الاطلاع على مأساة عائلة تشبه في مرارتها حالات الكثيرين، حالات لا تحدث سوى في بلادٍ تحكمها سلطة كسلطةِ الأسد.
ومن الشخصيات المميّزة في هذه الرواية، والتي تترك حزناً لدى القارئ وتدفعه إلى تأملٍ، هي شخصية "زينب". فقد جمع الحبُّ زينب بعيسى لفترة طويلة. تلك الفتاة المنحدرة من عائلة تنتمي إلى أقلية تدافع عن النظام الحاكم خوفاً أو قناعةً. لقد لاحظت "زينت" سلمية الحراك المدني في داريا، منتقدةً عنف السلطة الحاكمة في الردّ على هذا الحراك، فاختارت أن تكون بجانب حبيبها المدافع عن سلمية التغيير وأهميته. انتهى اختيارها بمأساة، إذ قتلها أخوها بعدما اكتشف علاقتها بعيسى المنحدر من طائفةٍ مختلفة، وبعد مشاركتها أيضاً بأوّل مظاهرة ضدّ النظام. تمثّل شخصية زينب فتاةً تمّ وأدها من جانب السلطة السياسية وسلطة المجتمع، تمّ وأدها عندما حاولت أن تنتصر لحبّها تجاه إنسان ينتمي إلى طائفة أخرى، وتجاه حراك مدني هَدَفَ إلى تغيير بنية كرّست الجمود والاستسلام في سلوك الأفراد وأفكارهم.
من الشخصيات التي زرعت صورة من صور الخوف لدى السلطة الحاكمة هي شخصية رجل الدين "عبد الله". فأكثر ما تخشاه السلطة السياسية هو ابتعاد سلطة رجال الدين عن خطّها وعن تأييدها، معزّزةً من تقزيم عقول الناس ومن استسلامهم، محذرةً من النقد والتفكير والتساؤل. في حين، كانت شخصية عبد الله تحاول تبيان أهمية حرية الفكر والتساؤل، وقدرة العقل على نقد مسلّمات الحاضر والماضي. كما علّم تلاميذه ودرّبهم على العمل الجماعي والمدني، وعلى أنَّه لا وجود لشخص خارج النقد.
أكثر ما تخشاه السلطة السياسية هو ابتعاد سلطة رجال الدين عن خطّها وعن تأييدها
أما شخصية "مصطفى" والد عيسى، فهي تجعلنا نستحضر الشعار الذي تداوله سوريون خلال مظاهراتهم "سوريا لنا وليست لبيت الأسد". فبعد التشرّد والكثير من الألم والمعاناة، ما كان لدى مصطفى من خيار سوى العودة إلى داريا المدمّرة ومحاولة إحياء ما تمّ قتله وتدميره. بيته المدمّر يبقى بيته هو، وأشجار مزرعته التي قاربت على الموت، هي أشجاره هو، لهذا عاد ليمنحها بعضاً من الحبّ والحنان والحياة، والأمل. لم يفقد الأمل وسط هذا اليأس الذي أغرق سورية وشعبها، يأس يسعى نظام الأسد إلى تعزيزه من أجل أن يخضع الجميع إلى سلطته ولكي ينظروا إليه على أنّه المخلص الأوحد والوحيد.
على مستوى أحداث الرواية، هي أحداث كثيفة الحضور وثقيلة على ماضي القارئ وحاضره في معظمها، أحداث يقول القارئ حيالها ما أشدّ جمالها وما أقسى مرارتها. سيتمنّى القارئ لو أنّ الوقت والصفحات سمحت للكاتبة بأن تذكر مزيداً من التفاصيل وتعمل على تطويرها حيال تلك الأحداث التي كانت تمنح أملاً ما: فما أجمل ذاك الحدث القصير في سرده عندما نزع عيسى صورة الحاكم الموجودة على حائط صف مدرسته، وأبدلها بصورة حصانه الذي أحبّه. أما النشاط المدني الذي قام به شباب داريا من محاولة تنظيف الشوارع والحدائق ومنع الرشوة في المؤسسات وبناء مكتبة تحتوي على كتب متنوّعة العناوين والموضوعات، فهو يمثّل بذور الحراك السلمي لعام 2011، وهو عام بداية المظاهرات السلمية في العديد من مناطق سورية ومدنها وقراها.
عندما سيقرأ سوريون رواية "غوطة دمشق"، سيدركون أنّهم على معرفة بمعظم تلك الأحداث، لكن سيستنتجون في الوقت نفسه أنّ لكلّ حدثٍ خصوصيته، وأنّ لكلّ حكاية ظرفها، وسيتمنون، بشكلٍ غريب، ألّا تنتهي كلّ صفحة كما انتهى واقعها. ويبقى أمل السوريين كمثل غوطة دمشق، وكمثل شجرة تنبت باستمرار ومن جديد، فلا حياة من دون أمل، ولا أمل من دون إرادة التغيير والعمل.