في رثائنا نحن لا غزة
قد يبدو نصٌّ يرثي غزة ملحميًّا، ومغريًا لكاتبٍ يدغدغ المشاعر بقدر ما يجعل القارئ يقتلع عينيه من حمّى البكاء، وله من الألفاظ والصور ما يتسلسل عفويًّا من أعلى إلى أسفل، بدقةٍ، وهدوء، واسترسال، والأحداث بها بما يكفي، ويفيض، ليكون مراثي لأهل غزة لألف عام قادم، ربّما لو رثيت كلّ شهيد بنص، وكلّ حكاية بمقال، وكلّ قصة بقصة؛ فلن تتسع مكتبةٌ لاحتواء غزة وحدها.
ولكن، أشعر بخيانة مشاعري، وخيانة الواقع، وخيانة أهل غزة أنفسهم، إن رثيتهم، لأنني مَن سأرثي؟ من يكتب نعيًا عدا الأحياء للموتى؟ ولأنّهم مشغولون في مصابهم فقط، كان الأولى بهم أن يكتبوا الرثاء إلينا، ويطبعوا نعيًا عريضًا كبيرًا على جرائدهم المحلية، يودّعون فيه عالمنا إلى الرفيق الأعلى، بينما يواصلون هم (وموتاهم) البقاء على قيد الحياة.
أيّ نصٍّ ذلك الذي يجرؤ على رثاء حي؟ وأيّ امرئ ذلك الذي يتبجح بنعي رجلٍ يتحرّك؟ جثتنا نحن الهامدة، لا طلنا الشهادةَ ولا الحياة، جالسين بين هذا وذاك، أو "قاعدين"؛ ذلك اللفظ القرآني البليغ الذي يوصّف الحالة بأدق حروف ممكنة، هو قعود، بلا حراك، صحيحٌ أننا كشعوب نحاول الغليان، التحرّك، الكلام، الصراخ، النصرة في الوسائل التي بين أيدينا، ولكنّا كدول، جميعنا في مزبلة التاريخ، حين تقرأ الأمم القادمة عمّا حدث، أشعر ببللِ وجوهنا، ليس لأنّ هناك ماء وجهٍ حُفظ، ولكنها بصقاتهم على تلك الحقبة التي عشناها!
أكثر من 20 دولة عربية، و50 أخرى إسلامية، وجيوش جرّارة، وقوات مصنّفة ضمن الأقوى في العالم، وقدرات هائلة، وجُنود بالملايين، وعتاد وعدّة، ولا يجرؤ ثامن جيش في العالم على إدخال "مساعدات"، مجرّد مساعدات، غاز، ووقود، وأغذية، وحفاضات، إلى البلد المجاور المحاصر، إلى البلدة التي لا يجاوز طولها 41 كيلومترًا، عبر بوابة مصرية فلسطينية، وحده من يملك مفاتيحها، لكنه لا يستطيع تدويرها في الباب، إلا بإذن من الجيش العدوّ!
الذين سيبكون على غزة في سرادق عزائها، ستكون غزة هي من تستقبلهم في أوّل الصف، بينما ينتحبون هم كأنهم يحضرون عزاءهم
ودولة أخرى، تجاور فلسطين من الشرق، يخرج ملكها بعربيةٍ متكسرة كلماتها، ملتوية أعناقها، لا يجيدها بقدر ما يجيد الإنكليزية، يطل ببذلة عسكرية، يتكلم خطابًا غير مفهوم إلا لاثنين من أقاربه، تصفّق له حاشيته بين كلّ سطرين حتى قبل إتمام معاني الجمَل، ويضجّ في القاعة فجأة صوت أجشّ، من أعماق الصدر؛ يقول بالروح بالدم نفديك (قلتُ: الله أكبر! أخيرًا شيء للأقصى ولو هتاف بحضرة الملك)، تابع الرجل: بالروح بالدم نفديك يابو حسين!
ودولة أخرى؛ لا تتحدث كأنّها سفارة إسرائيلية في خاصرة الوطن العربي، ولا كأنّها القناة الثانية عشرة الإسرائيلية الناطقة بالعربية، ولا كأنّها حكومة ظل لتل أبيب، وضعوها للتمويه في جزيرة العرب، وإنّما تزيد على ذلك بالفعل، حين تمنع العلم الفلسطينيّ من الرفرفة في مدرجاتها بين منتخبين عربيين آخرين، لا يملكان من الدم ولا الدين ولا المروءة ما يجعلهما يؤجلان إقامة مباراة وديّة، ولا أن يلعبوها مع جعل أرباحها لفلسطين، ولا يستطيع جمهورها أن يرفع العلمَ الذي منعته دول في أوروبا، ومع ذلك لم تستطع السيطرة عليه بهذا الإحكام العجيب!
أما العالم المتحضر، فليس يُنعى، ولا يُرثى، ولا يُتضمن وسط هذه المقالة التي ترثينا نحن، لأنّ آفته أكبر، وخيبته أثقل بكثير، وهو الذي يدّعي الحرية والحقيقة ويتهم ممالك العرب وجمهورياتها بالرجعية والديكتاتورية، بينما يمارس هو بنفسه الآن أقذر عملية تزييف على مرّ التاريخ، تلك التي لم تكن لتخطر على عقل غوبلز في الدعاية النازية نفسها، فلا تُنعى النوافق مع الموتى.
غزة لا تُرثى، ولو بالمعلّقات العشر، ولو بأبلغ ما كتب البشر، ولو بأفصح ما جاء بين أيديهم من قدمائهم لأحدثهم، ولا برسمات ولا صور، ولا شيء إلا الدموع، لأنّ الذين سيبكون على غزة في سرادق عزائها، ستكون غزة هي من تستقبلهم في أوّل الصف، بينما ينتحبون هم كأنهم يحضرون عزاءهم، ولم يمت أحدٌ إلا هم، ولا يبكون مدُنًا سواهم.