في مجالس شيخي الحكيم (1)
عبد الحفيظ العمري
شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلّبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزورهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته. هو معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أنّ تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق.
وهنا أوردُ بعضاً مما دار في مجالسه.
(1)
سألتهُ ذات يوم: من الإنسان؟
فأجابني: منْ يسعى لخيرِ بني الإنسان!
(2)
زرتُ شيخي ذات يوم، ثم سألته: ماذا يعني عام جديد؟
فأجاب: يعني فرصة جديدة لك لتكون إنساناً!
(3)
سألت شيخي: لمَ النفس تكره النصح؟
قال: لأنَّ النصح في عمومه يخالف الهوى، والنفس تنساق مع هواها!
(4)
سألتُ شيخي: ما تقول في دنيانا الحاضرة؟
قال: أقول ما قاله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: "أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً".
(5)
قلتُ لشيخي: كيف تحيا النفوس؟
قال: بغذاء النفوس!
قلت: وما غذاؤها؟
قال: كلّ ما يجعلها تسمو عن طينها اللازب، وانحدارها الغالب؛ وذلك بمجالسة العقلاء، ومصاحبة الأوفياء، والتعلّم لخير الدنيا أو الآخرة، ومطالعة ما يرفع همّتها للمعالي في سِيَر العظماء، فكم عبرة في سيرة!
(6)
قلتُ لشيخي: ندعو على الظَلَمَة ولا يُستجاب لنا؟
قال: تدعون عليهم في غيابهم، وتناصرونهم في حضورهم، فأنى يُستجاب لكم؟!
هلّا تبرّأتم منهم!
(7)
زرتُ شيخي ذات يوم وعنده رجل يحدّثه، فأشار لي شيخي أن أستمع.
سأل الرجل: ما الدنيا؟
أجاب شيخي: حلمُ ليلة أو قبْضُ ريح!
الرجل: وما نهايتها؟
شيخي: الموت
الرجل: فلمَ التعب؟
شيخي: لنيلِ الأرَبْ
الرجل: ولمَ الموت؟
شيخي: أرأيت لو أنّ لديك كتاباً، وأردت أن تنتقل من فصلٍ لآخر، فماذا تفعل؟
الرجل: أقلِبُ الصفحة
شيخي: والموت كذلك!
الرجل: لكني لا أرى الفصل القادم.
شيخي: هل عدم رؤيتك له ينفي وجوده؟
الرجل: لا أدري
شيخي: حسناً.. هل تذكرُ عندما كنت في بطن أمك؟
الرجل: لا
شيخي: لكن هل تنكر أنك مكثت في بطن أمك شهورَ الحمل؟
الرجل: لا أنكر.
شيخي: وكذلك الفصل القادم.
وما الدنيا إلا فصلٌ من فصول رواية الوجود!
(8)
سألتُ شيخي: لم يصف الناس الزمان بالسيّئ، ويشكون منه؟
قال: هذا مِنْ جهلهم!
قلت: مِنْ جهلهم، كيف؟
ما تغيّرت التعاليم بل تغيّر الناس؛ فالمتأخرون صيّروا الدين دكانًا منه يقتاتون، وعلى فهمه يتقاتلون!
قال: الزمان بريء، لا جيد ولا سيّئ، إنما هو وعاء للأحداث، وناس الزمان هم من يصبغونه بأفعالهم؛ فإنْ أحسنوا حَسُنَ الزمان، وإنْ أساؤوا سَاءَ الزمان!
قلتُ: لكن في كلّ زمان هناك أناس صالحون وأناس مفسدون، فما صبغةُ الزمانِ حينئذٍ؟
قال: صبغة الزمان من صبغةِ أفعال المتغلبين فيه على غيرهم من الناس.
قلتُ: إذا كان الأمرُ كذلك، فلمَ الناسُ يشكون من الزمان؟
قال: شكواهم من سوء أفعال المفسدين الذين صبغوا الزمان بصبغتهم السيئة، حتى ظهر ذلك السوء في بدن الزمان، فظنّ المشتكون أنَّ غريمهم الزمان، فشكوا منه!
(9)
قلتُ لشيخي: لِمَ المسلمون اليوم في أسفل السافلين في كلّ مجالات الحياة؟ بالرغم أنّ أجدادهم كانوا سادة العالم في زمن الحضارة العربية/ الإسلامية.
قال: مسلمو اليوم (بالذات في منطقتنا العربية) ورثوا كلّ انكسارات أسلافهم منذ تضعضع دولة بني العباس مع دخول المغول بغداد عام 1258م، ومن حينها لم تقم لهم قائمة حضارية حتى زمننا الحاضر.
قلتُ مقاطعاً: أليست تعاليم الإسلام التي جعلت الأسلاف يسودون عصرهم، هي نفسها ما بين أيدي مسلمي اليوم؟
قال: بلى، فما تغيّرت التعاليم بل تغيّر الناس؛ فالمتأخرون صيّروا الدين "دكاناً" منه يقتاتون، وعلى فهمه يتقاتلون! ولو فهموا دينهم حق الفهم، لفهموا دنياهم بشكل أفضل، لكنهم لا هذا ولا ذاك. لقد صارت شعائر دينهم مجرّد مظاهر يؤدونها، لا تغيّر سلوكاً ولا تبني إنساناً، وأصبح التدين اليوم روتيناً بحكم التعوّد لا غير! أين أثرهُ في الحياة المعاصرة؟ لا أثرَ يُذكر.
ليس المطلوب التخلّص من الدين، كما يفهمه البعض، بل تنحية محتكري فهم الدين!
قلت: شيخي، لكن أهل الغرب نحَّوا دينهم جانباً، ومع ذلك تقدّموا؟
قال: لا، هم لم ينحّوا الدين كدين، لكنهم تخلّصوا من قيود مؤسسة الدين لديهم التي احتكرت فهمها للدين، وجعلت منه حجرَ عثرة لأيّ رُقي من أجل مصالحها الخاصة، فكبّلت حركتهم في الحياة، فلمّا تخلصوا من قيودها انطلقوا يأخذون بالأسباب المادية، فنجحوا في دنياهم، وهذا مقتضى العدل، فلكلّ مجتهد نصيب. أما مسلمو عصرنا، لا أخذوا بالأسباب المادية كالغرب، ولا أدركوا عظمة دينهم كالأسلاف، فكانت النتيجة كما ترى.
قلت: هل ترى أننا يجب أن ننحي مؤسسة الدين جانباً كما فعل الغرب لنتقدّم؟ لكن ليس لدينا مؤسسة دينية؟
قال: كلّ جماعة دينية لدينا تمثل مؤسسة دين بفهمها له، ناهيك عن المؤسسات الدينية الرسمية التي تصبّ في هوى الحاكم!
لذا، ليس المطلوب التخلّص من الدين، كما يفهمه البعض، بل تنحية محتكري فهم الدين! ولن يكون ذلك إلا بغربلة الأفكار التي تُعرض على أنها من الدين، فجعلتنا سلبيين ديناً ودنيا.