في ملكوت لغة العيون
عزيز أشيبان
تستأثر لغة العيون بخصائص متفرّدة تميّزها عن باقي اللغات، فتأسر قارئها وتغوص به في ملكوت مكنوناتها، كما تدعوه إلى الخوض في رحلةِ تفحّصٍ وتدبّرٍ واستكشافٍ ما دامت تنبعث من رحم عضو جسدي حسّاس، ينهض بوظيفةٍ مفصلية؛ ألا وهي البصر.
وفي قلب لغة العيون تلتقي سلاسة الإرسال والاستقبال بجبروت قوّة المعاني والأبعاد دون إحداث ضجيج أو رنين أو إزعاج. ويمكن تصنيف لغة العيون في مجال غير المنطوق المفهوم من غير كلام، والذي يكتنز من القوّة والتحدي ما يخترق الأحاسيس والأذهان والنفوس ويلج الخوالج والحواس فيدبّ الحركة ويمنح التحفيز والترغيب ويرفع الترهيب والتهويل والعجز والتقاعس والتأجيل.
في الواقع، نحن في حضرة لغةٍ تعبر بنا إلى الروح، تحوي من الفضائل ما يفتقده غيرها، وتُحيل على عالم غير مستقر من الأسرار والتأويلات والقراءات، يجتمع في رحابها حقول معقدة ومركبة تستأثر بالكائن الإنساني وعملية تشكيل سلوكه من قبيل المعطى النفسي ونظيره الذهني وشريكهما العاطفي. كما تفي لغة العيون لقول الحق والتعبير عن صدق المشاعر دون حاجة إلى كلماتٍ أو عبارات أو حركات الجسد أو تقاسيم الوجه، وهي لا تحتاج إلى أدلةٍ من أجل الإقناع أو الدخول في نقاش أو جدال، كيف لا وهي لغة الصدق بامتياز، سليلة النقاء والبهاء والصفاء، تعلو ولا يُعلى على مقامها ووظيفتها وحقيقة كينونتها.
نتحدّث عن لغةٍ لا تعرف الكذب أو الاستمالة أو التحايل، رغم ما يطاولها من صفاقة محاولات التوظيف. هي فاضحة كاشفة لصاحبها مهما حاول التحايل والتمويه، حيث لا يقوى المخادع أو الكذّاب على الصمود أمام متانة صدقها وينحو نحو الجبن والفرار لعدم استجابتها لنواياه ومسايرتها لأساليبه، كما لا يستطيع ترويض مضامينها أو السيطرة على اتجاهاتها، إذ تنبعث ولا تتشكّل، تصدر ولا تتحوّل، تحتفظ بنفس الهوية ولا تتغيّر، تترفع على المؤثرات الخارجية وتسمو.
تنبعث ولا تتشكّل، تصدر ولا تتحوّل، تحتفظ بنفس الهوية ولا تتغيّر
ثمّة من تنظر إليه، فتظفر بغنائم الطمأنينة والأمان والدفء وتكتشف سلامة القلب ونقاء السريرة وصفاء الروح وسلاسة الانصهار والتلقائية، يهديك نظرة ملؤها الصدق ومخارجها العطاء. على هذه الضفة المباركة، تستقر لغة التفاعل العفوي حيث تواصل الأحبّة، الأصفياء، الأخيار، الأحرار...، تجمعهم نظرة تعصى على الهزيمة أو التركيع أو التقنين أو الاستمالة رغم تغيّر حال صاحبها وتذبذبه بين الحزن والسعادة والهدوء والغضب، تحتفظ بصدق مكنونها ونواة أصالتها ونزاهة معانيها ورجاحة عقلها وعمق أبعادها. كما تريح الأذهان والحواس وتهدي النفوس السكينة والاطمئنان، تختطفك للحظات وتغوص بك في أسرار جمالها، غير مدرك لما يحدث ويتحرّك حولك في إلغاء تام للزمان والمكان. ما أروعه من اختطاف، وما أحبّه من سفرٍ إلى فخامة الجمال الروحي الخلاب، حيث الإحساس بالأمان والسكينة.
على النقيض من ذلك، وعلى ضفة الظلمات والضياع والتوجّس، وكأنك تهوي من علياء النقاء والوفاء والفضيلة إلى غيابات الشك والرذيلة، هناك من تتقي النظر إلى عينيه لِما يستقر فيها من خبث وريب وشك... إذ ترسلان الإزعاج والقنوط والتحفّظ والتريّث والحذر، في نظرةٍ يسطو عليها الغموض والتقلّب واللؤم والمكر والخديعة، تمنع التفاعل التلقائي وتفضح صاحبها وتبدي ما يبطن من النوايا وتنهزم وتضمحل وتتوارى أمام نزاهةِ الصدق وصفاء السريرة، لا تنال من حسن النيّة وروح النزاهة غير الاندحار والانكسار والانسحاب.
من المؤكّد أنّه في أسرار لغة العيون تستقر خفايا أمور وحقائق تحيل على عظمة الخالق في إبداع خلقه وتسخير نعمه وعطائه وعلمه اللامحدود، حيث الطلب المنشود والمحمود والإعراض المنبوذ والمذموم.