قطط وكلاب وفلسفة
إن علاقتنا بالحيوانات الأليفة غريبة، فنحن نختار العيش معها من أجل أشياء كثيرة: المنفعة، أو التعافي الجسدي والنفسي، أو الرفقة الطيبة التي تخلصنا من ثقل الالتزامات تجاه الناس، أو لمجرّد ما يسمّى الآن بِجلال "الترند".
اليوم تجتاح الحيوانات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي: قطط إنستغرام، وكلاب سناب شات، وفيسبوك، والعلامات التجارية وتطبيقات البلاستور التي تراقب الحيوانات الأليفة، أما نحن البشر، فعلى الرغم من جميع مواردنا، ما زلنا لا نشعر بالرضا عن أنفسنا، ونقضي وقتاً وفيراً في سبيل البحث عن السعادة وتجنّب الآلام، بينما تعيش الكلاب حياة راضية بوجودها، مُكتفية بأساسيات العيش، تركض وتصطاد، وقد تتناول وجبة واحدة، كما يقول الكاتب روبرت ديبين، حتى أنها لا تشعر بالملل، بينما يضيق الإنسان بإدراكه للزمن.
هل هناك فيلسوف للقطط؟! حسنا هناك واحد، لكنه فضّل تعليم القطط بدل التعلّم منها. يذكر جون غراي، في كتابه "فلسفة القطط"، أنّ فيلسوفاً حاول تمرين قطته حتى تصبح نباتية، وقد أقنع نفسه بأنه أنجز المهمة، غير أنه عندما تمّ استفساره عمّا إذا كان يسمح لقطته بالخروج من البيت، تبيّن له أنّ القطة كانت نباتية في البيت وصيادة خارجه!
إنّ القطط تطيع طبيعتها وتتكيّف مع عيشها "كما هو"، بينما يجهد الإنسان ويقلق في سبيل تحقيق السعادة. أما سعادة القطط، فتتلخص في الحالة التي تنتقل إليها عندما تُسلب منها الأمور العملية اللازمة للرفاهية، وربما لهذا يحب الناس القطط، كما يؤكد جون غراي. ويذكر أيضا تقارير عن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت وتجاربه على الكلاب، حيث إنه استنتج أمام أنين آلامها المُروّع أنها ليس سوى آلات ميكانيكية بلا وعي. لكن، لماذا الوعي مهم إلى هذه الدرجة؟
السبب الجوهري الذي جعل الناس يقبلون القطط داخل بيوتهم هو أنها تمكنت من تعليمهم كيف يحبونها
يقدم الروائي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا صورة معبّرة عن اختبار الرحمة، والذي قد لا يكون حقيقياً إلا أمام من هم أضعف منّا، مشيراً في هذا المقام إلى انهيار الفيلسوف فريدريك نيتشه باكياً أمام حصان يجلده صاحبه بالسوط (للأحصنة قصة أخرى ربما). ذلك أنّ السبب الجوهري الذي جعل الناس يقبلون القطط داخل بيوتهم هو أنها تمكنت من تعليمهم كيف يحبونها.
إنّ الانسان بحاجة دائمة لشيء يتجاوز عالمه الملموس: الحب، أو الدين، أو الفلسفة، أو الفن، أو النجاح... بينما تعدّ القطط كائنات غير "كلبية"، نسبة إلى فلسفة ديوجين الكلبي، حيث تستطيع تدبّر أمرها وحيدة لمدّة طويلة. باختصار، إنها تعيش اللحظة. بينما يعاني البشر من أجل وضع هذا الأمر البديهي في نصوص، ومواعظ، وحكايات... كتب الشاعر الروماني الكبير كوينتس هوراتيوس فلاكس (هوارس)، "امتلك اللحظة". أما نحن البشر، فعلينا أن نجهد أنفسنا لنتذكر كلّ هذا.
يحتاج الإنسان إلى عزاءات ومعان يضفيها على حياته حتى تصبح مُستساغة. أما القطط فتنزلق بسلاسة مع خطة الطبيعة بأرواحها السبعة، غير مهتمة حتى بسَيدها، إذ لا سيد لها، بخلاف البشر الذين لا يحيون دون أسياد. طيب، ما حكمة القطط إذن؟
يختزل جون غراي فلسفة القطط في بضعة وصايا قِطَطية إن صح التعبير:
(1): لا تحاول إقناع كائن بشري بأن يتصرف بعقلانية، لأنّ الأمر أشبه بحثّ قط على أن يصبح نباتياً.
(2): من الحُمق أن يشتكي الإنسان من عدم كفاية الوقت، لأنّ ذلك يعني أنه لا يعرف كيف يمضي وقته فقط.
(3): لا تبحث عن معنى لمعاناتك، إذ يبدو الأمر جذابا، لكن من الأفضل تجنّب التعلّق بالمعاناة.
(4): من الأفضل أن تصبح غير مهتم بالآخرين على أن تشعر أنك مُرغم على محبتهم. فاللامبالاة قد تعلمك اللطافة.
(5): انسَ أمر السعي وراء السعادة، وربما يكون ذلك سبب عثورك عليها ما دمت لا تدري بالضبط ما يُسعدك حقا.
يحتاج الإنسان إلى عزاءات ومعان يضفيها على حياته حتى تصبح مُستساغة. أما القطط فتنزلق بسلاسة مع خطة الطبيعة
(6): لا تخشَ الظلام، لأنّ الكثير من الأشياء الثمينة توجد في الليل.
(7): نَم من أجل متعة النوم فقط، فالنوم يصبح شقاءً عندما يكون فقط من أجل استرجاع القدرة على العمل الشاق. لذلك عليك أن تنام من أجل المتعة وليس المنفعة.
هكذا تكلمت القطط دون مبالاة، وهذا ما تَعَوّد الناس على تسميته "أنانية القطط".
الحياة الجيدة عند القطط هي شيء يمكن الإحساس به وشمّه، غير أنها تجتاح عالمنا الحقيقي والرقمي، لذلك لا بد من تعليمها شيئاً ما عن الإنسان. في عصر ما بعد الحداثة هذا، يبدو أنّ الجميع مُحق، حيث الحقائق سائلة ومجهودات المعرفة الإنسانية أصبحت مجرّد "وجهة نظر"، إذ أصبح الإنترنت مثالا لتجزية الوقت، وإن كان تسلية فقدت براءة البدايات، بعدما اجتاحت الشركات الكبرى المجال الرقمي وأضحى الإنترنت تحت المراقبة. حتى الأفكار الجميلة تم تجميدها في قوالب مُعلبة جاهزة للبيع: مثل حياة الطبيعة، ونزعة التقليل من امتلاك الأشياء وعلامات تجارية لوجبات القطط النباتية...
قطط ماركسية؟
ستحاول البروفسورة لي كلير لا بيرج الانتقال إلى المعارضة وتعليم القطط الأنانية مبادئ الماركسية. يشكل مشروع "ماركس الموجه للقطط" (Marx for Cats) محاولة لطيفة لخلق سُخرية مُعاكسة، وشرح المفاهيم الماركسية، عن الاستغلال الرأسمالي، واغتراب الشُّغل... للقطط. إذ يبدو أنّ بعضها مستمتع بالدرس، وأخرى غير مبالية، بينما تبتعد أخريات عن الكاميرا ببساطة. بإمكان الناس متابعة المحاضرة المقدمة للقطط لتَجزِية الوقت، وقتل الفراغ، فهذه من خصائص الإنترنت اليوم. أمام هذا التناقض تشرح البروفسورة أمور السلعة والفن للقطط بينما تحدّق بها إحداهن، وتقرّر أخرى أخذ قيلولة.
الكلاب مصدر إلهام فلسفي
تحكي القصة أنّ الفيلسوف اليوناني ديوجين تورّط في قضية تتعلّق بتزوير العملة النقدية، في حين تقول رواية أخرى إنّ ديوجين لجأ إلى عارفة معبد ديلفي، وكان ردّها غامضا: عليك بـ"تشويه العملة". وهكذا لم يفهم الفيلسوف ردّ العرافة وأساء تأويل العبارة وبدأ بتزييف وتشويه العملات النقدية. إلا أنه سيدرك في ما بعد أنّ المعنى الخفي هو رفض التقاليد الجامدة التي يعيش الناس على إيقاعاتها. وقد شكّل ذلك احتجاجاً عميقاً على نفسه ودفعها نحو الشفاء مُعترضاً على الجشع المادي والقيم الأخلاقية الجامدة. انظروا كيف انتقل الفيلسوف من قيمة السوق النقدية إلى القيمة الأخلاقية، وحياة البساطة والانسجام الطبيعة. تكاد تشكّل العودة إلى الطبيعة اليوم عقيدة إصلاحية.
إنّ فلسفة ديوجين تدين للكلب بالإلهام، وبواسطته تعبّر عن موقف من هذا العالم: أي العيش بفضيلة القِلة والاكتفاء
إنّ فلسفة ديوجين تدين للكلب بالإلهام، وبواسطته تعبّر عن موقف من هذا العالم: أي العيش بفضيلة القِلة والاكتفاء. كيف نعيش إذن؟
يذكر الكاتب جون غراي أنّ إجابة ديوجين هي الاكتفاء الذاتي. اعتمد على نفسك جيدا. لكن، هذا يتطلب تدريباً، أي تدريب جسدك ونفسك. يفضّل ديوجين تمارين رياضية، وتأمل الحشود، ووجبة نباتية واحدة في اليوم تكفيه. كما كان يعانق التماثيل الرخامية في برد الشتاء، والمشي حافيا. أعتقد أنك يا عزيزي القارئ/ة لست بحاجة لتجرّب بنفسك حتى تفهم أن تمارين ديوجين هذه لا تستهدف غير تهذيب النفس ضد الأنانية المدمرة.
ماذا تعلمنا الحيوانات عن أنفسنا إذن؟
إننا نَعتني بها ونُسقط عليها مشاعرنا ورعايتنا. لكننا، أيضا، ننتظر منها التعاطف والتسلية، أو حتى العزاء أمام وحدتنا. أتذكر أني عندما كنت طفلا، كانت لديّ قطة صغيرة، كلّ شيء فيها مدهش، خارج الإنسانية، تُعبّر بالنظرة والإحساس، تطلب الاهتمام وتختفي لتعود فجأة. لكنها تقدم اللطافة عندما ترى أنّ ذلك أمر مناسب لها. لهذا ربما نُحب القطط والحيوانات الأليفة. إنها لا تثقل كاهلنا بمطالب العاطفة وخيبات التوقعات والجانب السلبي للمصلحة، فكثيرا ما يؤدي ذلك إلى المعاناة بين البشر. عندما تربّي حيوانا، فإنك تعيد تربية نفسك، وتتمرّن على رفقة تتكلم لغة مختلفة تماماً، لغة الغريزة والحدس الطبيعي، وتتواضع لنوع مختلف من الحياة لديه ما يقوله بطرق غير متوّقعة، حيث تُعلّمنا أنّ مَصيرنا مُشترك، وقد كان دائما كذلك، في هذا "الهباء المعدني" للكون اللانهائي.