قوارب الموت والفرار من جحيم الوطن
يقول برنارد شو: "الوطنية هي قناعتك بأنّ هذا البلد أعظم من غيره، فقط لأنك وُلدت فيه!" ولا شك أنّ شباب تونس الذين نشأوا في كنف "نموت نموت ويحيا الوطن" لم يعودوا يرونها وطنًا أعظم يستحقّ أنْ تُبذَل أو بالأحرى تُوأد في سبيل البقاء فيه أحلامُهم، وأنْ يُوطِّنوا أنفسَهم على الصبر والتواصي به من أجل ذلك الوفاء والحنين الذي يشدّهم إلى ترابِها وناسِها حيث الأهل والأحباب والأصحاب ودفءُ الذكريات التي تجعلها في عيونهم أعظمَ البلدان.
فتجد خيرة خرّيجي جامعاتها يفرّون إلى الهجرة عنها زُمرًا وأكثر الباقين يحلمون أو يخطّطون للمغادرة ويتحيّنون الفرص السانحة لذلك.. والبعض الآخر يُؤثرون المخاطرة بحياتهم ولو في قوارب الموت فيرتمون فيها مغامرين ومتراصّين يشقّون عُباب البحر والمجهول بحثًا عن الخلاص.. ولسانُ حالهم يقول عذرًا أيها الرجل الحكيم: ليس الوطن بالمكان الذي يُولَد المرءُ فيه، وإنما هو المكان الذي يستطيع أن يحلم فيه وأن يُنجز فيه وأن يُحترم فيه.. عذرًا أيها الوطن الذي انتفخت أوداجنا وسالت دموعنا تحت وقع نشيده فنحن نموت فعلًا.. على مرمى البصر، لكن هيهات فأنت يا أيها الوطن المعظّم ضريرٌ طميس أو ربما هو عمى الألوان ما يجعلك تميّز غيرَنا وتغفل عنا!
وقد يبدو الأمر معقولًا أو مقبولًا لو اقتصر على فئةٍ من الشباب يغشاهم الاندفاع وتتدفّق الحماسة في عروقهم عنفوانًا وحيوية، ولَقِيلَ إنه من حقهم مطاردة أحلامهم وقد غُلّقت في وجوههم الأبوابُ وانحُسرت عليهم الآفاق.. فليس من الخطأ سعيهم إلى الأفضل بل ربما الخطأ كل الخطأ في عيشهم حياةً لا يرضَوْنَها ولا تُرضيهم. أمّا وأنت تجد في فلول الراحلين عائلات بأسرها ونساءً وحواملَ وصبايا وأطفالًا ورضّعًا حتى، فلم يعد بالإمكان تغافل هذا الخطب الجلل أو نسبة مثل هذا الكلام والمقال إلى نفوس مريضة أو أقلام مأجورة أو غُرَفٍ مظلمة تريد أن تنال من سُمعة البلد!
ألا غُلّت أيادي من يتّخذ من مآسي الناس تجارةً يتكسّب من دموعهم ثمنًا زهيدًا أو مزايدة خسيسة
ألا غُلّت أيادي من يتّخذ من مآسي الناس تجارةً يتكسّب من دموعهم ثمنًا زهيدًا أو مزايدة خسيسة.. وشُلّت أيادي حُكْمٍ تغاضت ولم تحرّك ساكنًا أو أوصلت البلاد إلى حدً يضع فيه آباءٌ أو أمهات ضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم البلاد حتى وضعوا فلذات أكبادهم وصغارًا بعمر الزهور في فُلُك تحت رحمة الأنواء والأمواج! ثم ومن المضحكات المبكيات تسمع بأحدهم وقد اقتيد مغلولًا إلى السجن عقابًا له لتهوّره ولتعريض حياة ابنته للخطر المُحْدِق، فزادوه رهقًا ونصبًا، عِلمًا وأنه ما رماها بفؤادٍ فارغ بين أيدي القدر إلا بعد أن عجز عن علاجها بين ظهرانينا وتقلّى بين الإهمال والإمهال مِمَّنْ يتلحّفون بأثوابِ الملائكة وشَرَهُ الشياطين في دمائهم يجري، والموت أمام ناظريْه يمتصّ رحيقَها عِرْقًا بعد عِرق على مهل.. فاستودعها الله ورحمة الغرب "الكافر"!! ولئن ماتت فنِسبة الجريمةِ للبحر الغدّار أهون عليه من نسبتها لعجزه وهوانه! فما أشدّ حزم دولتنا لتطبيق القانون وحدوده الزاجرة وما أضيعها لروحه الجابرة!
نعم ربما يبدو الأمر للقارئ المستريح يحمل في طيّاته شيئًا من المبالغة وبعض التهويل وربما لا مبرّر بأي حالٍ يُخوّل وضعَ الأطفالِ القُصّر في قوارب الموت.. وقد يقول قائل آخر بأنّ الطمع في الكسب السريع وتخيّل الغُربة على أنها جنّة موعودة تنتظرهم مشرّعة أبوابها تصوّرٌ خاطئ يحتاج إلى تصويب، وربما أنتم محقّون في ذلك لكن اسمحوا لي بسؤالكم لِمَ لا تلقى نصائحكم آذانًا صاغية؟ لِمَ لا يردع هؤلاء الحالمين والمغامرين الموتُ والجثث الطافية التي يلفظها البحر كل حين؟ لِمَ يظنّون أن الموت لن يسلبهم ما يخشون التفريط فيه؟ ولماذا يُخيّر حتى ميسور الحال المغادرة؟ لماذا يهاجر الطبيبُ والمحاسب والمهندس والرياضي المتألّق فضلًا عن البقية؟ لماذا انخرط الجميع دون حدِّ سنٍّ أو قيدِ جنسٍ أو شرطِ عَوْزٍ في هذا الفِرار بإلحاح وإصرار؟
ولا أدري والله كيف ينام المسؤولون قريري الأعين وقد بلغ بنا اليأس من البلد هذا الحال الذي يجعل أهله يفرّون منه فِرارَ الذي لا يلوي على أحدٍ؟ كيف لا يدقّ ناقوس الخطر أبوابكم والبلاد تخسر عقولها وسواعدها بأرقام موجعة ومفزعة.. حتى بِتنا نحن العالقين مثار نُكتة وتندّر؛ ألا يقولون إن كانت تلك تُسمى بهجرة العقول والأدمغة.. فماذا نُسمّى نحن الباقين؟! فيا فخامة الرئيس ويا معالي الوزير ويا سيادة المدير المسؤولين غدًا أمام ربّهم، واليومَ أمام ضميرهم والناس.. هذا البلد ينزف وهذا اليأس يجثم على الصدور وهذا الشباب يُهدر وهذا الموت يترصّد، وإنْ كان التطبيع مع الكيان خيانة عظمى فإنّ التطبيع مع الموت واليأس خيانة أعظم وجرم أكبر!