ليتنا لم نكبر ولم نحلم
في مثل هذا اليوم وُلدتُ، وفي مثل هذا اليوم دَفنتُ مَن ولدَتْني، وسواء مرّت بنا لحظاتُ الفرح مرورًا عابرًا، أو التهمنا الحزن التهامًا، فلا الفرح دائِمٌ ولا الحزنُ يدوم.
الحقيقة أنّي لستُ مهتمّاً بإحصاءِ السنوات، ولا بتقسيم العمر إلى مراحل، فأنا (مثلكم تماما) لا أكبر مع الأيّام، بل أكبر مع الألم والخيبات. والموتُ، ذلك الفزع الأكبر الذي يهدّدنا، لا يقترب لأنّنا صرنا كِبارًا، أو لأنّ هذا الشيب يغزو وجوهنا كنذيرٍ صامت وشاهدٍ لصيق.. بل هو رفيقُنا الأقربُ منذ كنَّا نتشكَّل في ظُلْمَة الأرحام.
والفكرة المريحة التي ساعدتني على التعايش مع هذا العالَم المُصمِّم على ألاّ يُرضيني، مِرارًا وتكرارًا، هي أنَّ الحياة دارُ عبورٍ لا دار قرار أو جزاء، ثمّ إنّها، مهما استكثرناها، قصيرةٌ وهشّة كغزل البنات. فكيف نسمح لماضينا، بأيّامه المعدودة، أو للخوف من مجهولٍ وأحوالُه غير مشهودة، أنْ يشلَّ حاضرَنا فيحرمنا من الأحلام ويمنعنا عن الحياة. وأذكر هنا ودائمًا، ما كتبهُ عبد الرحمن منيف في إحدى رواياته: "الإنسان يجب أنْ يسرقَ لحظات الفرح، وإذا لم تكُن سارقًا جيدًا سوف تنزلق الحياة، وسوف تنظر ذات يوم إلى الوراء وتبصق، ستقول لنفسك: هذه السنين كلها ولا لحظة فرح واحدة!؟"، لأستيقظَ كلّ صباحٍ وأخطِّط ثمّ أسعى محاولًا جعل هذا اليوم يومًا سهلًا جيّدًا لي، وللذين أحبّهم من حولي. أبحث عن هوامش للفرح وألتمس حواف الثقة وأفتش عن أعتاب الخير الكامن في الحدود التي تحاصرنا وخلف الزوايا المحيطة بنا. قد يكون هذا بكلمةِ أملٍ، أو بجُملةٍ تمنح الدفء والاهتمام وتلملم العزيمة للأفضل أو بعناقٍ أو مسحةٍ أو بانحناءةٍ ترسمها شفتاي كبسمةٍ، فلا شيء يضاهي البسمةَ في طرْقها للقلوب؛ ربّما لو تخفّف بعضنا من غرور العقل لانتبه أنّ هي الأخرى أشدّ ما يميّز البشر عن الحيوان!
الشغوفُ بالحياة يلتقط جمالَها مِنْ تفاصيلها البسيطة؛ يصنع من حطبِها كُوخًا، ومن كوخه بَيْتا
لا أشغل نفسي بما هو أبعد من ذلك. لن أفهم الزمن، لا أعرف على وجه الدِّقة كيف سيمضي، هل سيعبرنا أم أنَّنا سنعبره، هل سيفلت مِنَّا أو أنَّنا سندركه، وأين سينتهي بنا المطاف.
لا أخاف أن أخسر، فما الحياة إلا خسرانٌ طويل، إلى أن تنعتق الروح من قيد الجسد، وتعود إلى صمتها القديم، خفيفةً، حُرَّة، غير آبهةٍ بأن تتوهَ أو تُجرح.
فالشغوفُ بالحياة يلتقط جمالَها مِنْ تفاصيلها البسيطة؛ يصنع من حطبِها كُوخًا، ومن كوخه بَيْتا، ومن بيته قصراً، ويزرع البسمةَ في وجوه من حوله من أشيائهم المُهمَلة وأدباشهم المبعثرة كطفلٍ صغير لم تُكبِّله عُقدنا وأفكارنا السخيفة. فضحكته مُشرقةٌ، عفوية، سريعةُ الظهور ومُعدية، وهي لا تحتاج تكلّفًا ولا تشترط المالَ ولا تقترن بالرفاه، لا حسابات تحكمها ولا ظروف تمنعها ولا شروط تُعجزها.
وقد قالوا إنّ أجمل ما في الحياة البراءة، وربّما ذلك لأنّ الأطفال في سن الزهور والبراءة لا يفقهون شيئًا عن الحياة.
ألم ترَ يومَا قهقهة ذلك الوليد يستمعُ لغمغمتك وإشاراتك الغبيّة؟ ألم ترَ كيف صدّقك صغيرًا وآمن بكلِّ سخافاتك ووعودك الكاذبة؟ ألم ترَ أنّ مصّاصة الحلوى تمتصّ كلّ غضبه فيتبخّر؟ ألم ترَ كم يقطع بُكاءَه سريعاً وتلتئم جروحُه سريعاً؟
ليتنا لم نكبر، ولم نحلم، ولم نركض نسابق الأيام، ويا ليتها لم تقسُ قلوبنا، ولم تنضج عقولنا لتحكمنا بعجرفتها. فما لنا لا نفرح، وليس من حولنا إلا أسرابُ المهرِّجين والغباء، وما لنا لا نؤمن والآيات والدلائل تطرق من كلّ صوْبٍ أبوابَنا العمياء، وما لأكوام الأقوال والأعذار لا تمتصّ ألمنا فيكبر، وما لدموعنا لا تجفُّ، أيحكمها العِنادُ والكِبرُ، أم هو السخاء؟!
وما لجروحنا لا تكفُّ، قد أثخنها الغدرُ، حيث جرح الأبدان يُؤلم، أمّا طعنُ القلوب فما له من شفاء.