هكذا تكلّم نيتشه
بلسانِ رَجُلٍ مجنون يحملُ مصباحاً ويبحثُ عن الله في الشوارع والأسواق، ويقول بعد رفض الناس الاستماع إليه: "مات الله. ونحن قتلناه"!
هكذا تحدّث الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، في كتابه "العلم الجذل"، وهكذا أعلن "إلحاده" كما يظنّ بعضهم، في حين أنّه لم يكن إلا التقاطًا ونقلًا لصورةِ ذلك الواقع المُزامِن لحياته، حيث أسقطتْ حركةُ التنوير دورَ الدين في تنظيم المجتمعِ كما أسقطتْ دورَه في السياسة والتدخلِ بشؤون الدولة. أيْ نعم، مِنَ المعلوم أنّ نيتشه كان يَكُنُّ العَداءَ للمسيحية بشكلها السائد آنذاك. وكرّس كلّ جهده مستخدمًا سلاحَ العقل لمحاربتها والتصدّي لها في كلّ مناسبةٍ أُتيحتْ له لتسفيهها والتقليلِ من شأنها ودحضها لأنّه رأى بها ديانةً تُشْغِل الإنسانَ عن الحياة بالآخرة، وتُبعده عن خوضِ غمار الدنيا، وتجعله فيها خاملاً كسولاً مُستسلِما. لكنه بقدر ما كان ممتنًا للعلم بإسقاط الدين، بقدر ما كان يبغضُ العلمَ لخلقِه فراغاً أخلاقيًا ومعنوياً أحلّ به فوضًى جرّدتْ الحياةَ من القيم وضخّمتْ النزعة الفرديةَ، ممّا أدى إلى انحلالِ الأفراد والمجتمع وأدّى إلى تبريرِ الحروب والقتل والسرقة لأغراضٍ مادية بحتة. وقد سَئِمَ نيتشة أفكارَ الكنيسة المُفلِسة والبالية وكرهَ صنمَ العقل، الإله الجديد "الجاف"!
ولعلّ بعضكم يقول وما لي ونيتشه وهذا المقال الجافّ؟! هكذا نحن، نُسلّم لغيرنا ليفكّرَ بدلًا منّا ويقرّرَ بدلًا منّا. الخيبة تُلاحقنا والهزيمة تُحاصرنا والوهم يحكمنا وما زلنا نخوض معاركنا بالعنتريات والسيوفِ الخشبية، فيما منابرنا تضجُّ بالسفاسِف وتئِنُّ من وجعِ الخطابة وسطورنا آهاتٌ تملؤها نقاطُ التعجب وأقلامنا تحكمها الغرابة. فلا غرابة أنْ نفضّلَ مِنَ الكلامِ رقائِقه البسيطة وما لان، ومن الميادين رَقَاقَها المبسوطة للعيان.. نجْترُّ القصصَ ذاتها ونتوارثُ الفشلَ ذاته أبًا عن جد كأنّه يبدأ بولادتنا ولا ينتهي مع موتنا، ومَنْ هَابَ "صُعودَ الجِبال يعِشْ أبدَ الدهرِ بين الحفر"!
فكم من عاقلٍ هشّته الحياةُ هشًّا وهزّته المحنُ هزّا، وكُلُّنَا لِفافةُ مشاعر وعُصارةُ حِسّ، فراودتْ قلبَه المفطورَ الأسئلةُ نفسها التي كَتَمَها خجلُنا أو خَوْفُنا مِنْ لَعنةٍ أو مسّ، وأعلنها نيتشه في جرأةٍ يحُثُّـنا لنفكّر: أين الله؟ ولسانُ حالنا يزيد فيُهَمْهِمُ على استحياء: هل تخلّى الله عنا؟
سطورنا آهاتٌ تملؤها نقاطُ التعجب وأقلامنا تحكمها الغرابة
ربّما لم تُقنِعْ الديانة المسيحية أو المثالية أو العقلانية نيتشه فأعمل مطرقتَه في كلّها هدْمًا، ولعلّي أستعيرها منه لقصفِ لصوصٍ سرقوا إيماننا وخطفوا ديننا؛ أحبارٌ، كهنةٌ، سدنة، أهلُ الكُروش من قُروش العروش، علماءٌ وورثةُ أنبياء! دِيرُهم بيتُ الطاعةِ وقُدَّاسُهم زُورٌ ونُذورُ وَلاءٍ وبَيْعَةُ الشيطان بالإفتاء، وآخرون مثـقّـفـون مُنْتَحِلون، أوراقُهم صكوكٌ وأقلامُهم تسبيحٌ وتطبيلٌ وثناء لساسةِ سُوس تنخرُ حاضرنا وتغتصب تاريخنا وتنهش أحلامنا.. فهاتِ مطرقتك يا نيتشه، هاتِها ناوِلْنِيها فكلُّ هؤلاء قتلة. لم يقتلوا الله. فالله حي لا يموت، لكنهم سمّموا يقيننا وأذهبوا ريحنا وقتلوا أملنا..
وربّما كنّا نحن أيضا شركاء في الجريمة يا نيتشه لكننا نكابِر ونبحثُ عن شمّاعةٍ نعلّق عليها ذنبنا وجريرتنا! فمعلمُنا بائعٌ، وطبيبُنا تاجرٌ، وتاجرنا غشاّش، وقاضينا قابض، ومحامينا كاذب، وحارسنا ناهب، وقوينا جبان، وغنينا شحيح، وفقيرنا لئيم... وبكلِّ صفاقةِ وَجْهٍ ووقاحةٍ نسأل: أين الله؟ أم تُراه تخلّى عنا؟
إلى هنا يا نيتشه وينتهي وفاقنا على الهدمِ، ستعود لزارا لتتجاوز حيرةَ إيمانويل كانط، فلم تُراهن على ما بعد الموت كما فعل بليز باسكال وتنزل من جبلك محمَّلا بالكنوز والهدايا ومبشِّرا بربيعٍ جديدٍ يأتي مع الإنسان العُلوي المتفوّق لتؤسّس دولة أعلى وأكثر قوة. (ربّما هذا ما يفسّر قيام الحكومة الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية بطباعةِ أكثر من مئة ألف نسخة من كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لتوزّعها على الجيش، إلى جانب نسخٍ من الكتاب المقدس).
لم يقتلوا الله. فالله حي لا يموت، لكنهم سمّموا يقيننا وأذهبوا ريحنا وقتلوا أملنا..
ولأنّ التاريخ شيء والحقيقة الجوهرية شيء ثان كما قال الفيلسوف هيغل، فنعم هذا فراقٌ بيني وبينك، سأنبئك بما لم أستطع عليه صبرًا ولم تحط به خبرًا؛ أمّا السفينة في لجّتنا فكانت لمساكين يعملون في البحر وتتقاذفهم أمواجه فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وإلّا ضاقت بهم مكانًا ومالت بهم ركبًا. وكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء ليشربوا منه مرّوا على من فوقهم، الذين في أعلاها؛ لأنّ الماء لا يقدر عليه إلا من هم فوق. ثم في يومٍ قالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا.. مجرّد خرقٍ في مكاننا نستقي منه، حتى لا نؤذي من فوقنا.. هكذا قدّروا وأرادوا وتمنوا، ولو فعلوا هلكوا جميعا... وأيّا كان سهمنا ورسمنا، فالسفينة سفينتنا والضيعة ضيعتنا والقصر قصرنا. ما علينا إلا أن نستردّ ما سُرق وأُخِذ منّا غصبًا.
سخرَ الغوغاء من زرادشت، وأدرك أنّه لا يستطيع التحدّث إلى الجمهور، وأنّه من أجل نقل أفكاره، فإّنه يحتاج إلى شركاء في التفكير، أي أولئك الذين يرغبون في العثورِ على أنفسهم. فلم يعد يريد أن يكون راعي قطيع، ولا أن يقود الحشد، بل فضّل أن يكون لصاً يسرق أفراداً منعزلين من القطيع ليأخذهم معه ليحفروا "سنناً جديدة على ألواح جديدة".
سيظن كثيرٌ من الناس أنّي قد غَلَوْتُ في حكمي وجاوزتُ الحدَّ في تقديري، حيث تغرّهم هذه الصلوات القائمة والأدعية الخاشعة والدموع الحارة والشعائر الدارجة، وما هي على جلالتها ورفعة شأنها إلا طقوسٌ ونُسك، إنْ لم تُسخَّر للعدل والحق في الهدمِ والبناء والإفراغ والإملاء، فلا تُسمن من زور ولا تُغني من جور.. ولم ترفع عن قطعاننا يومًا وصم الغثاء!