"كلنا أشرار وخصوصاً النساء"!
"كل النساء عاهراتٌ، إلا أمي". هذا القول الشائع منسوبٌ إلى نابليون، وقيل إنه أكمل ذلك القول بإضافة "وأقولها خجلاً"، أو "لكن دعونا لا ننسى أنها امرأة". وبغضّ النظر عن (عدم) صحة نسبة هذا القول إلى نابليون، فهناك من يرى أنّ نابليون قد يكون فعلاً قائل ذلك القول، في ردّ فعلٍ انفعاليٍّ على لامبالاة حبيبته/ زوجته جوزفين به وبرسائله، وعلى خياناتها المستمرة له. وهناك من يقدّم التفسير ذاته في خصوص أقوال نيتشه عن المرأة التي يبدو، لوهلةٍ أو أكثر، أنها تتضمن كراهيةً وعنصريةً ضد المرأة. فلنيتشه أيضاً قصة حبٍّ فاشلةٍ مع "لو أندرياس" سالومي التي رفضت أكثر من مرّةٍ عروضه للزواج بها. والطريف أنّ سالومي، وعدداً من النساء الأخريات، كنَّ راغبات في مصادقة نيتشه، ورافضاتٍ للزواج به. ومع ذلك، أو بسببه، كتب نيتشه، الذي كان يعاني من اضطرابات نفسيةٍ مزمنةٍ، أنّ "المرأة كائن غير قادر على الصداقة"، وهي "نصف البشرية الضعيف، المضطرب، المُتقلِّب، المتلوّن ..."، ولعل ذلك ينطبق على نيتشه وعلاقته بالمرأة، أكثر من انطباقه على النساء عموماً، وعلى علاقتهن بنيتشه. وهناك شهادات كثيرة على أنّ نيتشه كان ودوداً ولطيفاً في علاقاته مع صديقاته، ومع النساء عموماً، على العكس من أستاذه شوبنهاور، وعلى العكس مما يبدو للكثيرين في كتاباته. ولهذا السبب رأى جاك دريدا، وآخرون، أنّ من الممكن والضروري تأويل نصوص نيتشه، ومفهوم المرأة في تلك النصوص، بطريقةٍ تدحض المزاعم المتعلّقة بعنصرية نيتشه وكراهيته للمرأة.
ليس نادراً، في حياتنا اليومية، إصدار مثل هذه الأحكام المعيارية الأحادية الاختزالية في خصوص المرأة أو الحب أو الصداقة أو كلّ ما يخص الإنسان عموماً. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم الحديث عن "استحالة وجود الخل الوفي" وأن نغني مع نجوى كرم "ما حدا لحدا يا حبيبي ما حدا لحدا، الأيام علمتني إني ما صدق حدا". في المقابل، هناك من لا تقتصر تلك التعميمات عنده على أن تكون مجرّد ردود فعلٍ انفعاليةٍ، على الطريقة النابليونية، بل يقدِّم تنظيراً لها يتضمّن المسوّغات والمحاجَّات لصالحها. وتستند مثل هذه التعميمات إلى رؤية ماهوية/ جوهرانية، ترى اتسام الإنسان ببعض السمات الثابتة نتيجةً لطبيعته الأولية، أو نتيجةً للبنية أو المنظومة الواقعية التي يعيش فيها.
"الإنسان شرير بطبعه، لأنه مفطورٌ على الأنانية والرغبة في السلطة أو التسلّط على الآخرين"، هذا هو رأي كثيرين، ومن أشهرهم الفيلسوف الإنكليزي، توماس هوبز، الذي عرض هذا الرأي في كتابه "اللڤياثان/ التنين" خصوصاً. ووفقاً لهوبز، فإنّ حياة الإنسان في حالة الطبيعة، أي في الحالة التي لا توجد فيها الدولة وسلطتها، "منعزلة ورديئة وقذرة ووحشية وقصيرة"، بسبب أنانيته، ورغبته في الاستئثار والسيطرة. وأنه، بسبب ذلك، ثمّة حاجةٌ لدولةٍ ولسلطةٍ تحكم بين الناس وتضمن حصول كلّ ذي حقٍّ على حقه.
الطريف أنّ سالومي، وعددًا من النساء الأخريات، كنَّ راغبات في مصادقة نيتشه، ورافضاتٍ للزواج منه
في السياق السوري، نجد بعض الأحكام المستندة إلى هذه الرؤية السوداوية للطبيعة البشرية/ السورية. ففي الرد على الانتقادات الموجهة ﻟ "نظام آل الأسد" هناك من يقول إنّ منتقديهم كانوا سيفعلون مثل ما فعله "آل الأسد"، أو أسوأ، لو أنهم كانوا مكانهم. وفي إطار التعليق على الحديث عن طائفية هذا الطرف السوري أو ذاك، نجد كثيرين يسخرون من مثل هذه الأحاديث، بزعم أننا "كلنا طائفيون، كلنا يعني كلنا"، لأنّ البنية السياسية والاجتماعية في سورية لا تنتج إلا أشخاصاً طائفيين. ووفقاً لهذا الرأي، السوري طائفي، رغماً عنه، أي حتى لو رغب في ألا يكون طائفيّاً، لأنه محكومٌ بطبيعته، أو بالبنية السورية، أو بكلا الأمرين معاً.
لا تكترث "جماعة كلنا طائفيون" بالمعاني المختلفة والأبعاد المعيارية (السلبية) لمفهوم الطائفية ولحكمهم المعياري الاختزالي. ويميل أنصار هذه التفسيرات الطبيعية أو البنيوية إلى التقليل من دور وعي البشر وإمكانية تجاوز هذا الوعي للطبيعة البشرية المزعومة أو المفترضة وللبنية الاجتماعية المظنونة أو الواقعية. فالإنسان ليس مجرّد نتاجٍ لطبيعته أو لظروف نشأته والبنية أو البيئة المحيطة بها. لدى الإنسان قابليةٌ دائمةٌ لأن يكون أكثر من ذلك، ولأن يتجاوز كلّ ذلك أيضاً. وإمكانية حصول هذا التجاوز موجودة في طبيعة الإنسان، بغضّ النظر عن كونها شريرةً أو خيّرةً، وموجودة في البنية والظروف التي يعيش فيها. وانطلاقاً من المقارنة بالحيوانات أو الملائكة أو الرجال الآليين، يمكن القول إنّ الإنسان هو، تحديداً أو خصوصاً، هذا الوعي المتجاوز لمحدّداته الخارجة عنه أو الخارجة عليه. ويمكن للإنسان أن يكون منتجاً أو خالقاً لعالمه بقدر كونه ناتجاً عنه أو منه.
الاختلاف بالسلب أو النفي هو اللحظة الرئيسة والحاسمة في أيّ تغييرٍ أو صيرورةٍ جدليةٍ، كما بيَّن هيغل بحقٍّ. وقد تبنّى ماركس هذه الرؤية لاحقاً، لكنه زعم أو اعتقد بأنه قلب الجدل الهيغلي رأساً على عقبٍ، بحيث أوقفه على قدميه الماديتين بعد أن كان يقف على رأسه الفكري أو الروحي. المفارقة الدالة هنا أنّ ماركس قد استخدم فكره لإعادة الاعتبار، وإعطاء الأولوية، إلى القدمين، ليقف الجدل عليهما. ولاحقاً، تبنّى كثيرون هذا الفكر، ليقوموا بقلب العالم المادي رأساً على عقب، فنجحوا حيناً، وفشلوا أحياناً أخرى.
يمكن للإنسان أن يكون منتجًا أو خالقًا لعالمه بقدر كونه ناتجًا عنه أو منه
أشعر ببعض الطرافة في أن أكون أنا من يكتب هذا النص، ويدافع عن دور الفرد والوعي والفكر وما يسميه جورج طرابيشي "صندوق الرأس"، وفي هذا التوقيت بالذات. فمنذ أيامٍ قليلةٍ أُعلن قرب صدور كتابٍ لي عنوانه الفرعي هو "نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية"، أنتقد فيه المبالغة في تفسير السياسة بالثقافة، وإسناد دورٍ سببيٍّ إلى الفكر والوعي أو الثقافة عموماً. قد يبدو نصي الحالي متناقضاً مع بعض مضامين كتابي المذكور. لكنني أظن وأزعم وجود تكاملٍ بين النصين، على الرغم من التناقض المظنون أو الفعلي القائم بينهما، وبسبب ذلك التناقض أيضاً. ففي جميع الأحوال، لا يحصل التكامل إلا بين المختلفين أو المتناقضين، جزئيّاً ونسبيّاً، على الأقل.
رأى الفيلسوف الألماني شيلنغ أنه "في المطلق الكل واحدٌ"؛ ورأى هيغل في الظلام الدامس لذلك المطلق "ليلةً تبدو فيها كل البقرات سود". لكن هذه التعميمات تجعل المواضيع المتناولة غير واضحة وتجعلنا عاجزين عن التمييز فيما بينها. والوضوح والتمييز هما أهم معيارين للمعرفة، كما أشار ديكارت على سبيل المثال. لهذا ينبغي عدم استسهال إطلاق مثل تلك التعميمات والأحكام المشار إليها آنفاً. وعلى الرغم من أنّ مثل تلك الأحكام التعميمية تستند، في بعض الأحيان، إلى تبحُّر مطلقها وتضلُّعه في الموضوع الذي يتحدث عنه، فإنها تبيّن، في الوقت نفسه، قصورها وقصور المعرفة المتضمّنة فيها عن الإحاطة بذلك الموضوع. فعلى سبيل المثال، المرأة، كلّ امرأةٍ، ليست مجرّد نسخةٍ مكرّرةٍ من فريقٍ للنساء، بل هي ذاتٌ فريدةٌ وذاتُ فرادةٍ تميزها بالضرورة عن كل النساء. وهذا هو حال كل إنسانٍ عموماً. ويبقى التحدّي المعرفي والأخلاقي الأكبر، في هذا السياق، متمثلاً بالسؤال الآتي: كيف يمكننا أن نتحدث عن الإنسان والبشر عموماً، دون أن نلغي فرادة أيِّ فردٍ منهم؟