كوبا... اليسار والحريّة
منذ أن انطلقت الاحتجاجات المناهضة لسياسات الحكومة الكوبية كرد فعل عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتخبّط فيها البلاد عقب أزمة كورونا، سارعت بعض الأحزاب والشخصيات اليسارية الناشطة في منطقتنا، بشكل فوري وتلقائي، ودون أيّ تحليل للواقع الملموس -وفق التعبير الماركسي- إلى إدانة المحتجين "المندسين" و"العملاء" للإمبريالية حسب وصفها، معلنة تضامنها المطلق مع نظام الحزب الوحيد في هافانا، ورفضها لدعوات اليساريين الديمقراطيين المنادين بمساندة المعتقلين المعروفين بنشاطهم الحقوقي والسياسي في البلاد، وعلى رأسهم المناضل الماركسي التوجه فرانك غارسيا هيرنانديز، الذي ساهم في تنظيم وقيادة هذه المظاهرات التي لم يسبق لها مثيل منذ صيف 1994.
لا شك أنّ كوبا قد تعرّضت لحصار اقتصادي خانق من لدن الغرب الأورو-أميركي، ساهم في الأزمة التي تعيشها البلاد، ولا شك أيضاً أنّ لكوبا الحق في السيادة والاستقلال، كما أن رفضها التبعية للولايات المتحدة الأميركية، وهي جزيرة صغيرة تقع على مرمى حجر من فلوريدا، موقف بطولي لا يجادل فيه أحد، لكن لا يُمكن أن يُستعمل ذلك ذريعةً لقمع الحريّات وحقوق الإنسان، ليظلّ الحزب الحاكم منذ 1959، عام نجاح الثورة الكوبية التي قامت ضد ديكتاتورية باتيستا، والتي خلّفت إرثاً تاريخياً رائعاً من الكفاح والنضال ضد الاستبداد والاستعمار، ومساندة الضعفاء في كلّ ربوع العالم. فما زالت رمزية تشي غيفارا، المناضل الثوري الذي جاب القارات الجنوبية الثلاث من أقصاها إلى أدناها، بهدف مناصرة حركات التحرّر، حاضرة في ذهن شباب منطقتنا، وإلّا كيف نُفسّر أنّ صوره قد رُفعت في بعض مظاهرات الربيع العربي، مع أنّ تلك المظاهرات لم تكن تستند إلى توجه أيديولوجي محدّد.
تفاعَل اليسار العربي والمغاربي سلبًا مع الاحتجاجات الجارية في الجزيرة الكاريبية منذ 11 تموز/يوليو 2021 (يُمكن بهذا الصدد العودة إلى مواقف قيادات الحزب الشيوعي اللبناني والشيوعي العراقي والعمّال التونسي إلخ...) وخوَّن جزء منه النشطاء المساندين للديمقراطية التعددية وحق المتظاهرين المشروع في الاحتجاج بكوبا، كما يظهر من النقاشات المحتدمة داخل الجماعات اليسارية على وسائط التواصل الاجتماعي.
يؤكد جورج أورويل أن خصوم الديمقراطية ليسوا دومًا هم أولئك الذين يهاجمونها بوعي، وإنّما أولئك الذين يهددونها باستمرار بشكل "موضوعي" من خلال العقائد الشمولية
لكنّ الملاحظ أنّ جزءًا يسيرًا من الشباب المنتسبين لهذه المنظمات والأحزاب قد عبّروا عن تضامنهم مع المتظاهرين ومساندتهم للحريات في كوبا، ليتموقعوا على النقيض مع الغالبية العظمى من "الجيل القديم" من اليساريين الذي تبنّي الموقف الكلاسيكي من النظام القائم في كوبا، والمتمثّل في الدعم المُطلق للحزب الشيوعي الحاكم واعتبار كافة المعارضين له "طابورًا خامسًا" و"عملاء للإمبريالية".
إنّ موقف الكثير من الأحزاب والمنظمات اليسارية الناشطة في منطقتنا من دوام الحزب الوحيد الحاكم في كوبا، والتنكّر للحقوق المدنية والسياسية التي من المفترض أن تنعم بها كلّ الشعوب، يسائل عن مدى حضور قيمة الحريّة داخل نسيجها الفكري. خصوصًا أنّ بعضها لا يزال يعتقد بـ"ديكتاتورية البروليتاريا" بمعناها الستاليني، والمتجسّدة في السيطرة السياسية والاقتصادية لـ"حزب الطبقة العاملة" على أجهزة الدولة. غياب أو على الأقل هامشية قيمة الحرية بمنطقتنا شغل بعض المثقفين المحسوبين على الاتجاه اليساري نفسه قبل عُقود. فقد انتقد المُفكّر التونسي هشام جعيط في كتابه "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي"، الصادر عام 1984، غياب سؤال الحريّة في خطاب اليساريين العرب.
كما اعتبر أنّ قيمة الحريّة ومبدأ العدل الاجتماعي عنصران مرتبطان -ولا تفاضل بينهما- إذ هما مكوّنان أساسيان للديمقراطية.
يطرح جعيط هنا مسألة مهمّة وأساسية لا تزال تنطبق على الواقع الحالي، ألا وهي تهميش جزء غير يسير من الإنتليجنسيا العربية المنتسبة لليسار لقيمة الحريّة كحق طبيعي وكمبدأ أخلاقي، مقابل الاهتمام الحصري بالمساواة الاقتصادية، وهو ما قد يؤدي تلقائيًا إلى تأييد الديكتاتوريات والسلطويات التي تقوم منظومتها الفكرية وخطابها الدعائي على المفاهيم "الاشتراكية" (مثلًا حالة اليساريين الذين يساندون نظام كوريا الشمالية الشمولي)، في ظلّ إغفالها عُنصر حرّية الإنسان وكرامته، وهو ما لا ينسجم مع النسق القيمي لماركسية ماركس وللديمقراطية الليبرالية، فكلتاهما تعتبران أن لا مندوحة عن الحريّة.
يؤكد جورج أورويل أن خصوم الديمقراطية ليسوا دومًا هم أولئك الذين يهاجمونها بوعي، وإنّما أولئك الذين يهددونها باستمرار بشكل "موضوعي" من خلال العقائد الشمولية التي تتسم بتبسيطية فظيعة في تصوّراتها حول المجتمع السياسية والاقتصاد والثقافة... إلخ، والتي تنعدم فيها قيمة "الحريّة". ومن الجدال الذي خاضه رواد الشبكة العنكبوتية حول أحداث كوبا، يبدو أنّ اليسار العربي يعيش على مفترق الطُرق: فهناك من يدفع بسلك طريق اليسار التحرّري النابع من مشاكل الناس ومخاوفهم وآمالهم، ولكن الكثيرين يصرون على وفائهم لخطاب ومخيال اليسار السلطوي القائل بأولوية المساواة لأن أي حرية بالنسبة إليهم هي حرية المالكين والأقوياء. لكن هل يمكن تحقيق المساواة في مجتمع غير حر وبواسطة دولة تحارب الحرية؟ كل التجارب الاشتراكية الناجحة والفاشلة منها تؤكد صعوبة الأمر.