كيف تصبح كاتباً جباناً؟
حين تكتب، فالكتابة بحدّ ذاتها فعل جريء، يتطلب قدرًا كافيًا من الشجاعة أن تفصح عما يُخفى بين جنبيك، أو هي فعلٌ مقاوِم، تختبئ خلفها كملثم يناضل بينما لا يستطيع ببساطة أن يكشف عن هويته، وهي في الحالتين جرأة خالصة، وشجاعة منقطعة النظير، ونضال فعليٌّ؛ الكلمات فيه تأسيسٌ للأفعال تارة، واحتفاءٌ بها تارة.
تتحدث عن كلّ ما تحب بجرأة، عمّن تحب بجرأة، وعمّن تكره بجرأة، وعمّا لا يعجبك بجرأة؛ لا تخشى أن يصطدم ذلك أحيانًا مع أذواق القراء، لأنّ ما يهمك هو صدق الكلمة التي تسكبها في دفترك، أو تلقيها على مسامعهم، لأنّ من شرف الكلمة ألا تنتهك شرفها، بالكثير من التورية والمحسّنات حتى يتيه قصدك، فتتحايل على ضميرك بأنك كتبت، وتتحايل على الخوف بأنّك لم تكتب.
بعض الكتاب، ما إن أقرأ أسماءهم حتى أصاب بشعورٍ مزعج في معدتي، ليست قرحة، وإنّما اشمئزاز وقشعريرة، لأنّهم لا يناضلون ويختبئون خلف الكلمات، وإنّما يُخبئون حتى كلماتهم خلف الكثير من الاستعارات، ولا يصطدمون أيّ صدام مباشر مع السبب الرئيسي، مع السلطة، يفضّلون الحديث عن الأجواء والطقس والمناخ، والتراب الذي على كاسيت جدتهم القديم، والغبار، والذوق العام، والحنين للماضي، والسخط على الحاضر، من دون ذكر كلمة واحدة تضعهم ولو لخمسة أحرفٍ، في خانة الشجاعة.
هؤلاء لم يصطدموا ذات يوم، ولن يصطدموا؛ لأنّ مبيعات الكتب بالفعل تستحق أن تفكّر مليًّا قبل أن تكتب، لو كنت تعيش في دولة بوليسية قمعية من المقام الأول، لكن منتهى هذا التفكير هو ما سيحدّد تصنيفك القادم، هل أنت كاتب فعلًا، أم مجرّد جبانٍ يستطيع تذويق الكلمات، ورشّ بعض مساحيق التجميل الصناعية عليها، مع استخدام المبني للمجهول أكثر من اللازم بكثير، في جملةٍ لا تتحمل إلا أفعالًا واضحة، لأنّ الفاعل يجب أن يُذكر.
من شرف الكلمة ألا تنتهك شرفها، بالكثير من التورية والمحسّنات حتى يتيه قصدك
ستقرأ له نصًّا كاملًا من مائتي كلمة، في كلّ مرة، وستظل تبحث عن السبب، ولن يخبرك، لأنّ فهمه المحدود عن الأدب أوهمّه بأن تكثر الغموض في النص، وتمشي "جوا الحيط"، وتبتعد عن التخبيط في أصحاب المقامات الرفيعة، وألا تذكر بأيّ شكل، تصريحًا أو تلميحًا، السادة أصحاب النجوم والنسور، لأنك كاتب مشهور، ويجب أن تخاف على أكل عيشك، وحريتك، وندواتك، وجمهورك المخدّر بالبحث عن روائح الطعام، وساعات العصاري، وتلاطم الأمواج، وحبّ الشرفات.
كل ذلك حقٌّ لأيّ إنسان في الخوف على نفسه وحريته، لكن ذلك بكلّ تأكيد لا يعني أن تصبّ في كلّ مرة غضبك على المجتمع، وتسخط على السلطة من خلال انتقاد رئيس الحي، وعامل البلدوزر الذي يهدم تاريخ البلاد، و"المسؤولين" المبهَمين الواقفين على تنفيذ العمليات، فمن الآمر بكلّ ذلك، ومن الجاني الرئيسي؟ لن تذكر شيئًا، ولن تكتب عنه كلمة، ولن تنتقد أحدًا قد يعرف أحدًا قد يخبر أحدًا بأنّ أحدًا ما كتب كلمةً لا تعجب أحدهم في مكانٍ ما، وأنت لست حِمل كلمة شجاعةٍ قد تلقي بك في السجن أربعة أيام على ذمّة التحقيق، حتى يتدخل معارفك الكبار لتخرج من غياهب الجب بطلًا يقدّسه الناس من جديد.
هذه الحالة المزرية للكتابة الجبانة في بلد يزخر بملايين الشجعان الذين دفعوا الكثير وما زالوا يدفعون، لا تخصّ كاتبًا بعينه، وإنّما حالة لحركةٍ مسقّفة لا مثقفة، تلتزم بالسقف المهندَس لها بعناية، ولا تلتزم بشرفها تجاه الثقافة، التي لخصها لنا الشهيد باسل الأعرج ذات يوم: "بدك تصير مثقف؟ لازم تكون مثقف مشتبك وإذا ما بدك تشتبك لا فيك ولا في ثقافتك".