لم أعد أحنّ إلى مغربٍ أو أحد
اليوم، ومنذ وقتٍ طويلٍ، لم أعد أحمل أيّ حنين داخلي إلى المغرب. سوى في لحظاتٍ قليلةٍ ومتباعدة جدًّا، كأن يحنّ المرء إلى مدرسة طفولته حين يتذكر فترة دراسته، أو أن يحنّ إلى قصة حبٍّ قديمة مع فتاةٍ تزوّجت الآن، وربّما أنجبت أيضًا، أو أن يحن إلى مقهى في مكانٍ بعيد يُذكّره بصباحاتٍ جميلة. سوى أنّه سرعان ما يعود إلى وعيه خارج أحلام اليقظة ليحدّق في حياته في الحاضر: في المدرسة التي يدرس فيها الآن إن كان طالبًا لا يزال، أو في المرأة التي يحبّها الآن أو في المقهى الذي عثر عليه أمس وراقه، سواء في "شميسة" الصباح الربيعي الباكر أو في مطر العشية المتواصل الكئيب..
لا أحبُّ البكائيات، ولا التعلّق بكلّ ما أتركه. كلّ ما أراه بوضوح، وباستمرار، هو الحاضر والغد، أمّا الماضي بالنسبة إليّ فليس سوى قصصٍ تُروى، مادة حكائية لا أقلّ ولا أكثر، إنّه بالضبط: رأسمال الكاتب.
ما يربطني حتى اليوم بنهرِ أبي رقراق على سبيل المثال ليس حنينًا على الإطلاق، وليس أشواقًا رومانطيقية، وليست رغبة ملحة في زيارته، ولا أيّ شيء آخر من هذا القبيل. كلّ ما هنالك هو أنه سيل مائي، طويل وهائل من الحكايات بالنسبة إليّ، مخزون من القصص والصور والشخوص والمشاعر داخل ذاكرتي أكثر مما هو داخل قلبي، ولم ينضب بعد.
بالنسبة إليّ: العالم كبير جدًّا، وعلى المغاربة أن يغادروا أحضان أمهاتهم كي يكتشفوه. كي يكتشفوا جماله الساحر وبشاعته المرعبة. كي ينضجوا بالتجارب والمغامرات والأدرينالين. أقول هذا الكلام لنفسي أكثر مما أقوله لهم. لا أقصد هنا بمغادرة أحضان الأمهات الهجرة بالضرورة، بل هي مسألة وعي بالدرجة الأولى، قطع أبستيمولوجي لحبل السرّة الذي يربطك بالتبعية وعدم الاستقلال داخل ثقافةٍ عاطفية أكثر من اللزوم وخرافية ومهيمنة.
الأنهار تُوجد في كلّ مكان، والمدن تُوجد في كلّ مكان، والناس الجميلون يُوجدون في كلّ مكان، والسماء توجد في كلّ مكان، الحكايات والقصص والشخوص أيضا. ما ينقصك فقط هو مغادرة حضن الأم.
وطني الحقيقي هو: الأرض. أكثر من ذلك وطني الحقيقي هو: الكون قاطبة. كيف أكتفي إذن بمكان؟
وطني الحقيقي هو: الأرض. أكثر من ذلك وطني الحقيقي هو: الكون قاطبة. كيف أكتفي إذن بمكان؟
اليوم بلادي هي بلجيكا، وبالضبط بروكسل. هذا لأنّي أعيش فيها اليوم في الحاضر وليس في الأحلام. أشرب من مائها، وآكل من خيراتها وأتنفس من هوائها وأحبّها وأحنّ إليها كلّ يوم. إنّها وطني الآن وبلادي. عشت أيضًا في هولندا، وكما أحنّ أحيانًا إلى نهر أبي رقراق أحنّ أيضًا وأحيانًا إلى حدائق أيندهوفن العامة، وإلى جعة الأمستيل، وإلى المساء فوق كنيسة سانت كاثرين، لا أكثر ولا أقل.
السلطة بسياساتها وأيديولوجياتها التي تصنع قطعانًا في كلّ مكانٍ هي من يريد أن يحدّد انتماءاتنا. هي من يوّجه وعينا ولا وعينا، هي من يحدّد عواطفنا. لن يتغيّر كلّ ذلك إلا حين تكسر الأغلال والأوثان والحدود داخل عقلك، وداخل قلبك، وداخل روحك. لن ترى العالم جديدًا إلا حين تغادر عالمك القديم.
المغرب اليوم أصبح أبعد داخل ذاكرتي، نائيًا وضبابيًا. أحبّ أن أزور بلدانًا كثيرة مستقبلًا وأن تتضبّب هي الأخرى داخل ذاكرتي مع الوقت لتصير مادة شعرية للحكايات والقصائد. وطني هو لغتي التي أكتب بها على رأي شاعر كردي يكتب بالعربية ويقيم في المنافي هو: سليم بركات. اللغة أقوى من الأرض وأصلب وأبقى، إنّها الأرض التي نحملها داخلنا عوض أن تحملنا. إنّها الأرض التي نهرّبها.
لن يتغيّر شيء إلا حين تكسر الأغلال والأوثان والحدود داخل عقلك، وداخل قلبك، وداخل روحك
واليوم أخذت لغتي تتغيّر حتى في الأحلام، وأخذ بذلك وطني في الاتساع. اللغة التي ليست عربية، أو فرنسية، أو لغة أخرى، بل هي بالأحرى روح العالم. إنّها الشيء قبل أن يكون له اسم. ثم إنّها أيضًا الاسم قبل أن يجد شيئًا يُسمّى به.
المغرب الذي أحبّه حوّلته ذاكرتي إلى لغةٍ وهرّبته معي في المطارات، لم تنتبه إليه الجمارك ولم تشمّه كلابهم. أما المغرب الآخر فقد هجرته ذات صباح واعيًا ما أفعله. تركته لمن يريدونه. متعبًا منه ويائسًا. مغرب القهر والظلم والحكرة. مغرب بلا حرية. مغرب قتل أبناءه الأحرار، همّشهم، عذبّهم في المعتقلات ورمى بهم إلى المنافي. مغرب حاكمه خائف ومحكوموه خائفون. مغرب أصبح فيه الشعب مع الوقت عبدًا بحكم العادة، أصبحت فيه العبودية فضيلة، وأمست فيه الحرية عارًا يستدعي النبذ..
قبل سنوات، في غرفتي بالرباط، ذات ليلةٍ خرجت لأتمشى قليًلا بعد الثانية صباحا. كان ذلك من عاداتي بحثًا عن إلهام. سمعت صوتًا عظيمًا في السماء، رفرفة هائلة، رفعت عيني، ماذا رأيت؟ سرب طيور مهاجرة يمرّ فوق الحي، فوق سطح بيتنا أيضًا. كان مشهدًا مهيبًا لم أر مثله من قبل، خصوصًا في سكون الليل. سرب إوز مهاجر. ابتعد ثم أصدر صرخاته العميقة تلك التي فطرت قلبي. أردت أن أطير معه، أن أهاجر معه، أن أختبر الحياة والزمن والأرض مثله. لم أرد أن أظلّ حبيس ذلك الحي سجينًا مصفّدًا. اختفى الإوز سريعًا وبقيتُ أحدّق طويلًا في الفراغ واكتحلت عيناي بدمعٍ صامت. كان دمع حسرة عميقة لم أمسحه بكفي.. أحببت حدائق هولندا العمومية وبركها، أحببت إوزها، ربّما للسبب نفسه، كما لو أنّي كنت أبحث عن تلك الإوزات، كما لو أنّي أردت أن أقول لها: لقد هاجرت أنا أيضا يا عزيزاتي الإوزات رغم أنّي لا أملك جناحين، وما زلت أريد أن أهاجر، أن أزور بلدانا وبلدانا، أن أرى شموسًا وشموسًا، وأن أكتشف العالم.
ثم أسمعها تسألني: هل ستعود يومًا إلى المغرب؟ أجيبها حاسمًا وفي قلبي غصّة: لا أفكر في ذلك.. لا يلح عليّ ذلك.. لا يغريني ذلك، سواء حيًّا، أو ميتًا..