لم نستلف من الراعي سوى عصاه
كالجندي، ما زال "عمي لحو" مرابطاً على أبواب الذاكرة، مدافعاً عن بقايا الماضي الجميل الذي يهوى حكاية أجزاء منه في كلّ مناسبة، فيستذكر طفولة وزّعت تفاصيلها بين الحقل والجبل، وشبابا كقاعة انتظار كبيرة استُهلك في محاولات فاشلة للهجرة إلى الضفة الأخرى من أنفسنا، وأما الكهولة فقد سيطرت عليها تيمة العمل ومغامراته كحافر آبار في المدن، حيث في كلّ مدينة بئر من توقيعه، كما لا يمكنه إخفاء تجربته في المناجم، والتي لازالت أثارها جاثمة على رئتيه، وتظهر قسوتها عليه في كلّ مرّة يسعل سعالاً حاداً، كأنّ صدره يعلن تمرّداً عسكرياً على جسده مطالباً بالانفصال.
ككل شيخ في هذا الزمن، يقضي "عمي لحو" يومه في محاورة أفلاطونية مع الشمس، مراقباً سير الأمور في البيت بانتظار عودة الأبناء من مناوبتهم في الرعي، حريصاً مناضلاً على استمرار هذه الإشارات والممارسات التي كانت سائدة في زمنه، والتي تنكّر لها ما يسميهم بأناس هذا الزمان.
في الصباح الباكر قبل أن تستيقظ الطيور، يوقظ أبناءه النائمين على السطح والمنتشين بدفء "الملايات"، وليس بقدرتهم مقاومة نداء الأب، يستسلمون له بأجسادهم، أما أنفسهم فترغب في المزيد من لحظات النوم، بينما يجهز هو عدّة الأبناء في الرعي، من أحذية وعصي، بينما تكون الزوجة قد أعدّت لهم خبزاً وشايا للفطور، ووضعت مونتهم في المحافظ، ثم تودع القرية الأبناء، وتتمنى لهم التوفيق، وكأنهم في مهمة سامية. كيف لا وكلّ أنعام القبيلة مستأمنة لديهم على أمل أن تعود في المساء وبطونها قد ملئت؟
لا يمثل الرعي هنا مجرّد روتين يومي أو ممارسة طبيعية دون كثافة رمزية، بل علامة على رابط اجتماعي تواصلي متين، هو تمرين ثقافي في الطاعة (طاعة الأب) وفرصة تربوية لبناء الشخصية وإقدار الأبناء على مواجهة تحديات الحياة المقبلة؛ ففتى قادر على تدبير مهمة رعي قطيع كبير من الأغنام والنعاج في جبال وعرة تحت رحمة شمس حارقة، مؤمّناً عودتها بسلام إلى القرية، يمكن القول إنه خضع لتمرين سياسي عظيم تمّت فيه عملية بناء "أنا" فاعلة ومشاركة وقادرة على تحمّل مسؤولياتها، ولذلك يعود الأبناء من الرعي عودة الأبطال، وليس صدفة أن اقترنت صفة النبوة بنموذج الراعي كتكوين سياسي قبل استلام الرسالة.
ما فكرة العلف وربط البهائم سوى الإنذار الأخير على الزيغ المهوّل عن سكة ما هو صحي في ثقافتنا
ينطوي الرعي على طرافة أنطولوجية خاصة، وليس مجرّد سلوك اقتصادي، فما معنى أن يقف المرء وراء القطعان طول النهار، وباستمرار، ولأشهر، وهي تبحث عن طعامها في علاقة مباشرة مع الطبيعة دون توّسط إنساني كيميائي خطير؟ يا لها من فضيلة بطء وانتظار عظيم ذي مكاسب إيكولوجية رهيبة. مع أفول الرعي سيتم الإجهاز على ما تبقى من مشاعر الكرم الإيكولوجي والرأفة بالأرض في صدورنا، وما فكرة العلف وربط البهائم سوى الإنذار الأخير من الزيغ المهول عن سكة ما هو صحي في ثقافتنا.
تكتنف الرعي كذلك نواة سياسية، فما نموذج الدولة في أفق ثقافتنا سوى مماثلة لنموذج الراعي، ولكنها أنالوجيا زائفة، تمّت بشكل مشوّه، ولم يذهب بها إلى حدودها القصوى لتعطي نموذجاً فريداً في الحكم، بل اقتصر الاقتباس على دالة العصا، "أي لم نقتبس من الراعي أي قيمة حقوقية سوى عصاه"، إذ لم نستلف منه سوى مشاعر القسوة التي يسلطها على القطعان، في حين ثمّة مخزون حقوقي وعاطفي وسياسي نبيل لدى الراعي تجاه غنمه، لم يشتغل عليه تأويليا لجعله منبعا لذواتنا السياسية.