لو كان بتهوفن امرأة!
في مقالٍ كالقنبلة، نُشِر في صحيفة ديلي ميلي قبل أيّام، وجّهت الكاتبة البريطانية بيترونيلا وايت، ما وُصِف بأنّها ضربة موجعة إلى الحركةِ النسوية؛ سيما أنّ المرأة هي إحدى الناشطات اللواتي قضين جزءاً غير يسير من حياتهن في الدفاع عن قضايا المرأة ومطالبها في السّعي نحو التحرّر من الهيمنةِ الذكورية.
تنتقدُ الكاتبةُ الحركةَ انتقادًا شديدَ اللهجة، وتعتبرُ أنّها السّبب في تحطيمِ جيلٍ بأكمله، وتصفُ خطورتها في كونها تحقّرُ من شأنِ الأنثى التقليدية باعتبارها مجرّد صورة نمطية اخترعها الرِّجال لإبقاء النساء تحت السطيرة، وبناءً على ذلك يُنظر إلى الرّجل بوصفه عدوًّا. أمّا النتيجة فهي دمار مستقبل النساء ومعاناتهن مع الوحدة، من دون أسرة أو زوج وأبناء. وهو أمر مؤلم وغير صحي. تقول بيترونيلا: "أنا عازبة وبلا أطفال ووحيدة، خذلتني الحركة النسوية وخذلت جيلي كلّه، ألتقي كلّ يوم اثنين مع مجموعة من الصديقات في أحد مطاعم لندن، نجلس على الطاولة بقرب النافذة ونناقش حياتنا، لدينا الكثير من الأمور المشتركة فكلنا في منتصف الخمسينات من عمرنا ونساء عاملات متعلمات تعليمًا مرموقًا، ولكن.. هناك فراغ في حياتنا فكلنا عازبات وليس لدينا أطفال".
ومع كلّ تلك الضجة التي أثارها المقال، لم تكن بيترونيل، هي الوحيدة التي عبّرت عن خيبةِ أملها، بل وُجِّهتْ في العقدين الأخيرين، في الشرق كما في الغرب، انتقادات مُماثلة إلى النسويّة التي ما فتئت تفقد المعنى الذي أُسّست عليه، بسبب خروجها عن الدعوة إلى المساواة مع الرّجل، وهو مطلب معقول، إلى تماديها في رفعِ سقف مطالبها إلى درجةٍ لا يمكن تمثلها إلاّ باعتبارها لوثة جنونية، أو نوعاً من الخطابات المتسلّطة، الفاقدة للحكمة والاتزان، وابتداع حرب مجانيّة مع الرّجل باعتباره عدوًّا مطلقًا.
لقد افتعلتْ النِّسوية بحسب ذات الرأي حروبًا في جبهاتٍ متعدّدة ضدّ الرّجل، بل زحفت بهذه الحرب إلى ساحةِ اللغة، حين اعتبرت أنّ هذه الأخيرة ما هي إلاّ صورة من الاستبداد الذكوري، مطالبة الكنيسة بإعادةِ صياغة الكتاب المقدس لأنّ توجيه الخطاب بصيغة المذكر يحمل نوعًا من التهميش (من كتاب: "مفهوم النسوية" لأمل الخريف ص 118). فيما تذهب بعض مواقف النسويات وتعابيرها أبعد من هذا الوسواس اللغوي، إلى ما يمكن فهمه نوعًا من الأندروفوبيا (رهاب الذكور). تعبّر الكاتبة النسوية الفرنسية لوسي إيريغاري، عن أعراض هذا المرض في جملة صادمة: "أنّ الآلهة المؤنثة وحدها هي التي يمكنها تحرير المرأة وإسعادها". كما تذهب الباحثة الأميركية، سوزان ماكلاري التي جمعت بين البحث الموسيقي والنقد النسوي في تعصبها إلى ضرورةِ إعادة النظر في السيمفونية التاسعة لبتهوفن بوصفها تحرّض على الاغتصاب.
حرب بين الجنسين تُخاض في ساحة الثقافة، ومن زاوية التصوّر، وهي ما سيُبنى عليها العالم مُستقبلًا
لا تقف النسوية عند هذا الحد في نظرِ المنتقدين في مهاجمةِ كلّ ما هو ذكوري، بل ما هو أنثوي أيضًا؛ أي بكلّ ما يتصل بطبيعةِ المرأة الهادئة التي تنعتها بالمرأة التقليدية.
ثمّة حجج كثيرة وذرائع يسوقها المعارضون لكن، كلّ ما لمسناه هنا قد يظلُّ مثل خربشات صغيرة على هامشِ جوهر القضيّة. يجب أن نسلم أوّلًا أنّ المرحلة التي يعيشها الغرب، ونعيشها معه، ولو بنسبة ما تزال ضئيلة، هي نوع من التدافع الحتمي والضروري في مرحلةٍ تاريخية كهذه، حيث ترى النسوية أنّه ما يزال هناك ميراث ضخم عليها أن تعارضه، فالعالم ما زال في رأيها مبنيًّا على المنطق الذكوري منذ آلاف السنين، والحضارة كلّها تبدو متناغمة مع هذا المنطق. لذلك فمن الضروري والحتمي إعادة ترتيب الأشياء لتُلائمَ تجربة الحياة الأنثوية، لكن المنظومة التقليدية ما زالت في نظرها تقاوم، على الرّغم من الحديث الرسمي عن المساواة، وكلّ تلك المكاسب التي حققتها فعليًّا منذ السماح لها بالتصويت في الانتخابات وإلى اليوم، حيث أصبحت تتبوّأ المرأة أرفع المناصب حتى في الدول ذات النظام التقليدي الأبوي شديد الوضوح.
شئنا أم أبينا، إنّها بكلّ صراحة، حرب بين الجنسين تُخاض في ساحة الثقافة، ومن زاوية التصوّر، وهي ما سيُبنى عليها العالم مُستقبلًَا. حرب ربّما قد تطول؛ لكن، لا بدّ لها من مخرج، حيث يمكن استعادة بعض التوازن.
لقد استيقظنا على واقعٍ لم يفكّر فيه حتى من دافعوا في القرن التاسع عشر والعشرين عن حريّة المرأة، وضرورة مساواتها بالرّجل. واقعٌ سيَتيه بنا في مزيدٍ من الحيرة، للبحث عن خطةٍ بديلةٍ للعيش الهادئ والمنسجم، لكن قبل ذلك سيدفع بعضنا الثمن، مثل كاتبة المقال الغاضب، بترونيلا وايت. رجالًا ونساء، وأطفالًا أيضًا، سندفع الثمن أحيانًا مع هذا الصراع العلني الواضح بين الجنسين؛ والذي بدا أنّه يغيّرُ سريعًا وجه عالمنا والمفاهيم التي تأسّس عليها قبل آلاف من السنين.