متشابهان ولا يشبه أحدهما الآخر
لم يكونا توأمين، لكنهما شقيقان متشابهان إلى حدّ التطابق، ولا يفصل ولادة الأوّل عن الثاني سوى سنة واحدة. كانا يشكلان عصابة متحدة، يدافع كلّ منهما عن الآخر باستماتة، ويلعبان الكرة في فريق واحد، كثنائي متناغم إلى حدٍّ مثالي. كلاهما أعسران (يساريان)، يداعبان الكرة بالقدم اليسرى، ويأكلان باليسرى، ويكتبان باليسرى، ويشتمان بالجهة اليسرى من الفم.
كان من الصعب التفريق بين الحسن والحسين على كلّ الأصعدة والمستويات، فقد كانا قادمين من نفس الأبوين، ومن نفس البيت، ومن نفس التربة الزراعية الفقيرة. أفكارهما متطابقة ومتكاملة، يبدأ أحدهما الفكرة فينهيها الآخر بانسجام كامل يصيبنا بالدهشة.
مرّت الأيام سريعًا، وعَبَرَ الفضاءَ سحاب كثير في اتجاه أراضٍ مجهولة، يمكنني تخيّله الآن يعبر بطريقة التسريع السنيمائي للوقت، كأنّ السنوات لم تكن سوى برهة واحدة..
كبر الحسن وكبر الحسين، وما زالا يخرجان من نفس البيت. سوى أنّ الحسن أسدل لحية كثيفة، ولبس "جلّابة" (جلبابًا) قصيرة لا تصل إلى الكعبين، وتزوّج فتاة منقبة، وأصبح ناقل أسماك بالجملة بسيارة "ستافيت" مخرخشة، وداعية عابسًا، متجهمًا، مخيفًا، وسط الحي، يختلي بنفسه كثيرًا، ويعاشر ملتحين آخرين ضبابيين من أحياء مجهولة، لا نعرف أبدًا ماذا يدور بالضبط في رأسه.
بينما أصبح الحسين بائع حشيش، ذهب إلى السجن مرارًا وعاد منه، لم يتزوّج، يواعد مومسات ومتشرّدات يجلسن إلى جانبه علانية في قارعة الطريق وقنينة "الروج" (النبيذ الأحمر) بين رجليه وكيس الحشيش في جيبه، والزبائن يتردّدون عليه، كأنه يبيع الحلوى والسكاكر فقط. سكينه لا تفارق حزام سرواله، وعراكاته الدامية لا تتوقف أبدًا.
قد تختلف ألوان العنب، وأشكاله وأحجامه، لكن العنب يظل عنبًا في كلّ أحواله
رغم كلّ ذلك ما زال الحسن والحسين يقطنان نفس البيت، لكلّ واحد منهما غرفته، الأوّل يغلق على زوجته، والثاني يغلق على قنينته، وحين ينزلان أحيانًا معًا عبر الزقاق المنحدر الطويل الغامض، يتحدثان بانسجامِ أخوين قبل أن يفترقا عند أول مفترق طرق، ليصعب عليك تحديد أيّهما الحسن وأيّهما الحسين، وأيّهما الحسين وأيّهما الحسن، خصوصًا حين تراقبهما من الخلف، وقد اختفت اللحية واختفت الندوب العميقة على الخد، وتطابقت مشيتاهما بلغتها الباطنية الخفية، لولا "الجلّابة".
قد تختلف ألوان العنب، وأشكاله وأحجامه، لكن العنب يظل عنبًا في كلّ أحواله. هذا ما قد تقوله في ذهنك وأنت تتذوّق كأس نبيذ.
أقف على السطح كلّ ليلة تقريبًا لأتأمل الحي والأبنية العشوائية اللانهائية، المتداخلة، المتراكبة، المتدافعة بالمناكب الخرسانية، و"الأنتينات"، والصحون اللاقطة القديمة، والثياب على أسلاك الغسيل، وعشّات الحمام، والنجوم البراقة، والأخيلة، وأشباح المنتحرين، ورفاق الطفولة الذين عبثت بهم السبل والمصائر والأقدار... ومن هناك، رغم كلّ شيء، أستطيع تنشق نسمات قادمة من نهر الطفولة، أميّزها جيدًا عن الهواء العادي..