04 أكتوبر 2023
متى يعلنون وفاة المعارضة؟
لم يكن للثورة السورية يوماً تمثيل سياسي، هكذا بدون مقدمات، كان ثمة معارضات محدودة المشروع والرؤية، وبدلاً من امتلاكها رؤية وطنية جامعة؛ كانت تمتلك مشروعات ضيقة ذات طابع فئوي وطائفي وعشائري في أغلب الأحيان.
ما حصل أن هذه المعارضات التي كانت تحلم دائماً بامتلاك منبر ما؛ سارعت منذ 2011 للوثوب على الحراك الشعبي، وصادرت منبره وادعت أنها تمثله وهي التي كان يأكلها النسيان والإهمال ولم يسمع بها أحد من الشباب الثائر. قفزت قطعان المعارضين على الثورة وراحت تقدم نفسها موجهاً لها ووصياً عليها ومنيراً لدربها، رأس مال حكمتها في ذلك كله هو كمشة من التجارب الفاشلة والصراعات البينية وسنوات طويلة قضاها أفرادها في السجون.
مؤلم أن يقضي إنسان زهرة سنوات عمره في السجن لأسباب سياسية، ويستحق منا كل تضامن وتعاطف، على ألا يصل هذا التعاطف إلى درجة أن نقول له: تفضل خذ الثورة وقدها نحو الهاوية!
خرج هؤلاء من سجونهم ولكن السجون لم تخرج منهم، وبقيت أحاديثهم ومخططاتهم تتمحور حول القضاء على خصومهم الذين كانوا في المهجع المجاور في السجن وقد أصبحوا اليوم يمتلكون تياراً سياسياً منافساً. وإذا ما جربت مرة أن تجلس بينهم لتستمع لأحاديثهم سيهولك مدى رسوخهم في الماضي وابتعادهم عن الحاضر الذي لا يعرفون عنه شيئاً. يتحدث أحدهم حملة أمنية داهمت مقر حزبهم عام 1975 في الساعة الثانية ظهراً، فيصحح له آخر قائلاً: لا، كانت المداهمة في الساعة الواحدة والنصف ظهراً! وهكذا تجد نفسك في حديث لا ينتهي لرجال لا يرفضون مغادرة الماضي فحسب، بل ينظرون نحوك بطريقة بطريركية قائلين: اسمع اسمع... كل ثورتكم اليوم هي بفضل نضالاتنا بالأمس!
في المقابل لم ينجح الشباب السوري الثائر بتشكيل أي جسم سياسي يتولى الحديث باسمه، بل على العكس تماماً نجحت قطعان المعارضين باكتساب الشرعية عبر ضم عناصر ثورية منفردة إلى تشكيلاتها، لتقول لمن يعترض على عدم وجودها على الأرض: هذا كذب ها هم الثوار في صفوفنا. إلى جانب عمليات إفساد طويلة لصفوف الناشطين الثوريين عبر إدخالهم في حمى صراعاتهم البينية والفئوية وصراعات تحالفاتهم الإقليمية. ولعلنا نقسو قليلاً فنقول: إن من قبل من الثوريين الانضمام إلى تشكيلات المعارضة ارتكب خيانة بشكل أو بآخر لثورة شعبه.
طوال سنوات الثورة والحرب اقتصرت علاقة المعارضة بشعبها على زيارات بروتوكولية لرجالاتها إلى بعض المناطق السورية مصحوبة بطقوس احتفالية وأعراس وطنية تشبه تماماً تلك التي كان يقوم بها نظام الأسد، وتوثقها عشرات الصور والفيديوهات. كيف لا، وثمة معارض عتيد قرّر أن يلتقي بالشعب!
لم ينظر هؤلاء إلى شعبهم بوصفهم مدينين له وخدماً لقضاياه، بل كان الشعب مديناً لهم وغير مستحق لتضحياتهم غالباً، وفي أحسن الأحوال كانوا يتبرعون للمشردين في الخيام ببعض الأموال تقرباً إلى الله ورغبة في اكتساب بعض الحسنات، مع حرصهم الدائم على الإقامة في فنادق من ذوات الخمسة نجوم على الأقل، فبغيرها لا تلتئم اجتماعاتهم التاريخية والمصيرية، وبدون حرس شخصي ومكتب في إسطنبول مثلاً لا تكون معارضاً، إلى جانب بطاقة طائرة من فئة رجال الأعمال بالتأكيد، فالمعارض العتيد بحاجة للراحة حتى يؤتي النضال ثماره.
إن الأفق السياسي للمعارض السوري يتلخّص في الحصول على جنسية دولة ما، أو محاصصة النظام في دمشق للحصول على كرسي وزاري ما أو إدارة مديرية ما، حتى لو كانت مديرية الصرف الصحي. ولأجل ذلك يفتش معارضونا عما يدعم مطالبهم ويؤكدها، وبطبيعة الحال هم يفتشون بعيداً عن الشعب، يفتشون في الدول المجاورة والبعيدة، فتراهم يتحدثون التركية بطلاقة ويؤكدون أن نصف السوريين من أصول تركمانية وأنهم لم يكفوا عن البكاء والتحسر منذ رحل آخر جندي عثماني عن بلادنا، أو ييممون وجههم شطر إسرائيل لأنهم سمعوا ذات مرة أن إسرائيل وحدها قادرة على إزالة الأسد، أو يطيرون إلى السعودية للتأكيد على العلاقات العشائرية التي تربط عشائرهم بأخواتها في السعودية ودول الخليج عامة. أو يعتنقون تياراً دينياً ما لأن سوقه "ماشي" في الدولة الفلانية. أو يؤكدون على أنهم يساريون قبل ماركس ورضعوا الشيوعية سوية مع لينين لأن روسيا باتت صاحبة الكلمة الأقوى. جميعهم يعرف جيداً أن المؤسسات التي بنوها للحديث باسم المعارضة متحدة هي محض أكذوبة ستنهار قريباً ولا يبالون إن انهارت آمال شعب وأحلامه ومستقبله معها.
وكما استفرد الأسد بالمناطق السورية واحدة تلو الأخرى سيستفرد بهم هم أيضاً واحداً تلو الآخر، فيسترضي البعض بمنصب ما، ويترك آخرين يتحسرون على فراقهم لياسمين الشام، ويعيد المتبقين إلى السجون مجدداً. ولذلك تراهم يعملون جميعاً على الخطة باء، الخطة التي تضمن لهم بعض المكاسب الشخصية.
فلا تغضب يا عزيزي إذا غاب علم الثورة السورية عن اجتماع للمعارضة أو عن مكتب رئيس الحكومة الانتقالية أو عن غرفة عمليات قائد الجيش الوطني المشغول بمحاربة أعداء الآخرين ولا يرى جيش الأسد أصلاً، ولا تغضب إذا حضر في المقابل العلم التركي أو السعودي أو الأميركي. هذا الأمر الذي يجعلنا نستشيط غضباً لا يعنيهم أصلاً ولا يفهمون سبب غضبنا لأجله، فالوطنية والانتماء لمشروع وطني غير مبرمج أساساً في أدمغتهم!
في المقلب الآخر، لا يمكن لنا تبرئة ساحة الشباب الثائر من التقصير وتسليم الثورة لقمة سائغة لقطعان من المعارضين منزوعي الهوية، انشغل هؤلاء بالقشور وتركوا اللباب، تراهم يمتلكون عشرات ومئات منظمات المجتمع المدني التي تُعنى بالطفولة والمرأة والجندرة والعدالة الانتقالية والتعليم والصحة وقائمة طويلة من أعمال على أهميتها فإنها لا تحتل رأس القائمة، أي التمثيل السياسي للثورة، وهكذا تبقى الثورة مصادرة مكتومة الصوت والرأي.
أحاول جاهداً تخيل مقدار سعادة نظام الأسد بوجود معارضينا، إنه لم يحاول يوماً إخفاء أصواتهم أو تغييب أجسادهم، هل سمعتم بأن نظام الأسد قتل أحداً من هؤلاء؟ بالعكس تماماً هو سعيد بهم، يسلط الأضواء عليهم عبر وسائل إعلامه ليري جمهوره مدى ضآلتهم وقزامتهم. ولكنه في المقابل لا يتسامح أبداً مع أي من الشباب الثائر أو القلة الباقية من المعارضين الوطنيين الذين انتفضوا في وجهه صارخين: "الشعب يريد إسقاط النظام". النظام لا يريد هؤلاء الذين يقولون "الشعب" ويرحب دائماً بأولئك الذين يقولون "أنا أريد" "تركيا تريد" "قبيلتي تريد" "طائفتي تريد"، هؤلاء من الممكن إرضاؤهم أما الشعب... فالويل للشعب!
وعليه، ألم يحن الوقت لإسقاط كل هذه المستحاثات؟ ألم يحن الوقت لإفساح الطريق لصوت وطني يمثل ما تبقى من الحراك الشعبي؟ ألم يحن الوقت لنقول: خذوا إقاماتكم، مكاتبكم، سياراتكم، جنسياتكم الأجنبية، بطاقاتكم البنكية، ذكريات نضالكم... وانصرفوا... بالله عليكم انصرفوا!
ما حصل أن هذه المعارضات التي كانت تحلم دائماً بامتلاك منبر ما؛ سارعت منذ 2011 للوثوب على الحراك الشعبي، وصادرت منبره وادعت أنها تمثله وهي التي كان يأكلها النسيان والإهمال ولم يسمع بها أحد من الشباب الثائر. قفزت قطعان المعارضين على الثورة وراحت تقدم نفسها موجهاً لها ووصياً عليها ومنيراً لدربها، رأس مال حكمتها في ذلك كله هو كمشة من التجارب الفاشلة والصراعات البينية وسنوات طويلة قضاها أفرادها في السجون.
مؤلم أن يقضي إنسان زهرة سنوات عمره في السجن لأسباب سياسية، ويستحق منا كل تضامن وتعاطف، على ألا يصل هذا التعاطف إلى درجة أن نقول له: تفضل خذ الثورة وقدها نحو الهاوية!
خرج هؤلاء من سجونهم ولكن السجون لم تخرج منهم، وبقيت أحاديثهم ومخططاتهم تتمحور حول القضاء على خصومهم الذين كانوا في المهجع المجاور في السجن وقد أصبحوا اليوم يمتلكون تياراً سياسياً منافساً. وإذا ما جربت مرة أن تجلس بينهم لتستمع لأحاديثهم سيهولك مدى رسوخهم في الماضي وابتعادهم عن الحاضر الذي لا يعرفون عنه شيئاً. يتحدث أحدهم حملة أمنية داهمت مقر حزبهم عام 1975 في الساعة الثانية ظهراً، فيصحح له آخر قائلاً: لا، كانت المداهمة في الساعة الواحدة والنصف ظهراً! وهكذا تجد نفسك في حديث لا ينتهي لرجال لا يرفضون مغادرة الماضي فحسب، بل ينظرون نحوك بطريقة بطريركية قائلين: اسمع اسمع... كل ثورتكم اليوم هي بفضل نضالاتنا بالأمس!
في المقابل لم ينجح الشباب السوري الثائر بتشكيل أي جسم سياسي يتولى الحديث باسمه، بل على العكس تماماً نجحت قطعان المعارضين باكتساب الشرعية عبر ضم عناصر ثورية منفردة إلى تشكيلاتها، لتقول لمن يعترض على عدم وجودها على الأرض: هذا كذب ها هم الثوار في صفوفنا. إلى جانب عمليات إفساد طويلة لصفوف الناشطين الثوريين عبر إدخالهم في حمى صراعاتهم البينية والفئوية وصراعات تحالفاتهم الإقليمية. ولعلنا نقسو قليلاً فنقول: إن من قبل من الثوريين الانضمام إلى تشكيلات المعارضة ارتكب خيانة بشكل أو بآخر لثورة شعبه.
طوال سنوات الثورة والحرب اقتصرت علاقة المعارضة بشعبها على زيارات بروتوكولية لرجالاتها إلى بعض المناطق السورية مصحوبة بطقوس احتفالية وأعراس وطنية تشبه تماماً تلك التي كان يقوم بها نظام الأسد، وتوثقها عشرات الصور والفيديوهات. كيف لا، وثمة معارض عتيد قرّر أن يلتقي بالشعب!
لم ينظر هؤلاء إلى شعبهم بوصفهم مدينين له وخدماً لقضاياه، بل كان الشعب مديناً لهم وغير مستحق لتضحياتهم غالباً، وفي أحسن الأحوال كانوا يتبرعون للمشردين في الخيام ببعض الأموال تقرباً إلى الله ورغبة في اكتساب بعض الحسنات، مع حرصهم الدائم على الإقامة في فنادق من ذوات الخمسة نجوم على الأقل، فبغيرها لا تلتئم اجتماعاتهم التاريخية والمصيرية، وبدون حرس شخصي ومكتب في إسطنبول مثلاً لا تكون معارضاً، إلى جانب بطاقة طائرة من فئة رجال الأعمال بالتأكيد، فالمعارض العتيد بحاجة للراحة حتى يؤتي النضال ثماره.
إن الأفق السياسي للمعارض السوري يتلخّص في الحصول على جنسية دولة ما، أو محاصصة النظام في دمشق للحصول على كرسي وزاري ما أو إدارة مديرية ما، حتى لو كانت مديرية الصرف الصحي. ولأجل ذلك يفتش معارضونا عما يدعم مطالبهم ويؤكدها، وبطبيعة الحال هم يفتشون بعيداً عن الشعب، يفتشون في الدول المجاورة والبعيدة، فتراهم يتحدثون التركية بطلاقة ويؤكدون أن نصف السوريين من أصول تركمانية وأنهم لم يكفوا عن البكاء والتحسر منذ رحل آخر جندي عثماني عن بلادنا، أو ييممون وجههم شطر إسرائيل لأنهم سمعوا ذات مرة أن إسرائيل وحدها قادرة على إزالة الأسد، أو يطيرون إلى السعودية للتأكيد على العلاقات العشائرية التي تربط عشائرهم بأخواتها في السعودية ودول الخليج عامة. أو يعتنقون تياراً دينياً ما لأن سوقه "ماشي" في الدولة الفلانية. أو يؤكدون على أنهم يساريون قبل ماركس ورضعوا الشيوعية سوية مع لينين لأن روسيا باتت صاحبة الكلمة الأقوى. جميعهم يعرف جيداً أن المؤسسات التي بنوها للحديث باسم المعارضة متحدة هي محض أكذوبة ستنهار قريباً ولا يبالون إن انهارت آمال شعب وأحلامه ومستقبله معها.
وكما استفرد الأسد بالمناطق السورية واحدة تلو الأخرى سيستفرد بهم هم أيضاً واحداً تلو الآخر، فيسترضي البعض بمنصب ما، ويترك آخرين يتحسرون على فراقهم لياسمين الشام، ويعيد المتبقين إلى السجون مجدداً. ولذلك تراهم يعملون جميعاً على الخطة باء، الخطة التي تضمن لهم بعض المكاسب الشخصية.
فلا تغضب يا عزيزي إذا غاب علم الثورة السورية عن اجتماع للمعارضة أو عن مكتب رئيس الحكومة الانتقالية أو عن غرفة عمليات قائد الجيش الوطني المشغول بمحاربة أعداء الآخرين ولا يرى جيش الأسد أصلاً، ولا تغضب إذا حضر في المقابل العلم التركي أو السعودي أو الأميركي. هذا الأمر الذي يجعلنا نستشيط غضباً لا يعنيهم أصلاً ولا يفهمون سبب غضبنا لأجله، فالوطنية والانتماء لمشروع وطني غير مبرمج أساساً في أدمغتهم!
في المقلب الآخر، لا يمكن لنا تبرئة ساحة الشباب الثائر من التقصير وتسليم الثورة لقمة سائغة لقطعان من المعارضين منزوعي الهوية، انشغل هؤلاء بالقشور وتركوا اللباب، تراهم يمتلكون عشرات ومئات منظمات المجتمع المدني التي تُعنى بالطفولة والمرأة والجندرة والعدالة الانتقالية والتعليم والصحة وقائمة طويلة من أعمال على أهميتها فإنها لا تحتل رأس القائمة، أي التمثيل السياسي للثورة، وهكذا تبقى الثورة مصادرة مكتومة الصوت والرأي.
أحاول جاهداً تخيل مقدار سعادة نظام الأسد بوجود معارضينا، إنه لم يحاول يوماً إخفاء أصواتهم أو تغييب أجسادهم، هل سمعتم بأن نظام الأسد قتل أحداً من هؤلاء؟ بالعكس تماماً هو سعيد بهم، يسلط الأضواء عليهم عبر وسائل إعلامه ليري جمهوره مدى ضآلتهم وقزامتهم. ولكنه في المقابل لا يتسامح أبداً مع أي من الشباب الثائر أو القلة الباقية من المعارضين الوطنيين الذين انتفضوا في وجهه صارخين: "الشعب يريد إسقاط النظام". النظام لا يريد هؤلاء الذين يقولون "الشعب" ويرحب دائماً بأولئك الذين يقولون "أنا أريد" "تركيا تريد" "قبيلتي تريد" "طائفتي تريد"، هؤلاء من الممكن إرضاؤهم أما الشعب... فالويل للشعب!
وعليه، ألم يحن الوقت لإسقاط كل هذه المستحاثات؟ ألم يحن الوقت لإفساح الطريق لصوت وطني يمثل ما تبقى من الحراك الشعبي؟ ألم يحن الوقت لنقول: خذوا إقاماتكم، مكاتبكم، سياراتكم، جنسياتكم الأجنبية، بطاقاتكم البنكية، ذكريات نضالكم... وانصرفوا... بالله عليكم انصرفوا!