محطات من حياة المناضل ميشيل كيلو
في التاسع عشر من إبريل/ نيسان للعام 2021، غيّب الموت أحد أبرز رموز النّضال ضدّ السلطة، المعارض الأول لنظام الأسد الأب والابن فيما بعد، والمثقف صاحب التوّجه الليبرالي، اليساري صاحب الفكر والقلم الحر، المناضل، ميشيل كيلو، والذي طُويت برحيله صفحةُ نضالِ طويل امتدّت منذ الثمانينيات، ولم تنته حتى بعد وفاته.
على الرغم من حالة الانقسام والتّشظي والصراع الأيديولوجي الواضح في الحالة السورية، وما خلّفته من اضمحلالِ حيال الرؤية السياسية والتصوّرات على صعيد المستقبل السياسي للبلاد، نجد أنّ شريحة كبرى من السوريين قد اجتمعوا واتفقوا على شخصيةِ الراحل رغم ما يحمله من علاقةِ جدليةِ حيال بعض القضايا. لكنّ تلك الآراء، كانت بِمُجملها أقرب إلى التوافق، دلّ على ذلك الحزن الذي خيّم على السوريين بعد رحيله. وأقصد هنا كلّ السوريين الذين احتجزهم نظام الأسد في ذلك السجن الكبير في مناطق القمع والخوف والإذلال، وفي مدن التهجير القسري، اللّاجئئن والمهجرين في الداخل وفي المنفى، حتى القابعين في خيام القهر والتشريد. ولعلّ سبب هذا التوافق، يكمن في الخطاب الشعبي الذي كان يحمله إلى المظلومين والمقهورين بعيداً عن الوهم وبيع الأكاذيب، إذ كانت خطاباته المثيرة للجدل في نظر البعض تتّسم بالواقعية والعقلانيّة بعيداً عن الخرافة لكنها وبالرغم من ذلك كانت مفعمةً بروح الأمل، إذ كان داعياً إلى العمل ونبذ بذور التّفرقة للخلاصِ من الظلم وإسقاط الطاغية. ففي مقابلة له على قناة فرانس 24، قال: "أنا سأدعو إلى عقد مؤتمر لفكّ المؤمنين المسيحيين عن الكنيسة، ولا يجوز أن تتحدث الكنيسة باسمنا نيابة عنّا". في إشارةِ واضحةِ إلى أنّ بعض رجال الدين المسيحي يقفون في صف الاستبداد الذي قارعه لعقود طويلة. فعلى الرغم من كونه مسيحيّ الديانة لم يقف الدين حائلاً من قول الحقيقة والوقوفَ في وجه رجالات الكنيسة، إذ كان السير على نهج الحرية والخلاص من القمع هو هاجسه الوحيد وحلمه التليد.
لم يكن الراحل كغيره ممن ادّعوا التمثيل السياسي المعارض في دهاليز السياسة وأروقتها، في ترفِ الفنادق وبذخ المناصب. إذ وعلى الرُّغم من أنه كان أحقّ بها من غيره، إلا أنّه أبى إلا أن يكون في خندقِ واحد مع أبناء وطنه من الأحرار، فذاق رُهاب الأسد في باكورة شبابه، وكان من أوائل المعارضين السياسيين الذين نادوا بالإصلاح خلال فترة حكم الأسد الأب، تلك الفترة التي اتسمت بالصمت السياسي وانعدام العمل الثوري المعارض ضدّ المنظومة القمعية والاستبدادية آنذاك، فكان ممن تعرّض لتجربة الاعتقال في سجن المزة السيّئ الصيت وتجرّع ألوان العذاب بطرقِ وحشيةِ باتت معروفة لدى أغلب السوريين.
كان السير على نهج الحرية والخلاص من القمع هو هاجسه الوحيد وحلمه التليد
يحكي لنا ميشيل قصّته المشهورة التي جرت أحداثها في إحدى فترات الاعتقال عندما التقى بطفل وُلِدَ في الزنزانة، إذ سأله ذلك الطفل عن معنى "العصفور والشجرة"، فلم يستطع الإجابة رغم بساطة السؤال، وقد لا يحتاج أحدنا ليستنتج من هذا أنّ تلك القصة البسيطة التي انعدمت فيها أصغر معاني الإنسانية، هي قصة بلد كامل يقبع تحت وطأة الظلم والقهر والطغيان.
أيضاً، ناضل ميشيل كيلو في مرحلة تاريخية امتدت لنصف قرن ضد سلطة الديكتاتور المطلقة التي تجلّت في جرائم الاعتقال وكمِّ الأفواه وقمع الحريات، فكان لتلك التجربة النضالية الطويلة عُمق دلالي أفرز إيماناً عميقاً راسخاً في تعزيز المبادئ الإنسانية وإرساء أسس المواطنة وضرورة العمل الثوري للانعتاق الأبدي من سلطة العبودية، مؤمن بأنّ الوعي بالحرية هو إيمانٌ مطلقٌ بأنها كاملةٌ بذاتها، وهو البوصلة التي تحدّد مسار الثورة بعيداً عن تأطيرها بالحدود الضيّقة والفهم المعكوس. فالإنسان في تعريف أرسطو "هو ذاتٌ حرةٌ جديرةٌ بالحرية" وقد عزّز الراحل هذا التعريف حينما قال: "ليس هناك قضيةٌ سياسيةٌ في حياة الإنسان على الإطلاق إلا قضية الحرية".
لم يكن كيلو ملاكاً منزّهاً عن الأخطاء خالياً من العيوب، بل كان بشراً له هفواته وأخطاؤه السياسية في بعض المواقف والتصريحات، لعلّ السبب في ذلك هو تلك الحالة التي آلت إليها القضية السورية من تعقيداتِ وتداخلاتِ وانسدادٌ في أفق الحل القريب، لكنّ من عرفه من قريبِ أو بعيد، فقد أيقن أنّ تلك الأخطاء والهفوات لم تكن نابعة من مواقف سلبية حيال بعض القضايا، بل كانت نابعةً من إنسان حمل همّاً عظيماً تجاه قضيته ووطنه.
"لن يحرّركم أي هدفِ آخر سوى الحرية، أنتم الشعب وحده من صنع الثورة فلا تدعوا أحدا يسرقها منكم، ولن تقهروا الاستبداد منفردين، في وحدتكم خلاصكم فتدبروا أمرها بأيّ ثمنِ وأي تضحيات". تلك هي الكلمات الأخيرة التي قالها الراحل بتجرّد، والتي كانت بمثابة الوصية الأخيرة التي تركها للسوريين في منفاه الأخير، بينما كان يصارع المرض على فراش الموت، مخاطباً السائرين على درب التغيير والديمقراطية لنبذ الخلافات وتعزيز الوحدة واستحضار القواسم المشتركة واجتماع الرّأي والكلمة، فهي السبيل الوحيد لنيل المراد وتحقيق الحلم المنشود.