ملف العنصرية: إلى متى يظل "الخادمُ خادماً"؟ (7)
منذ سنوات عديدة، كنت أسمع كغيري جملة مخيفة "لا يدفن الأخدام موتاهم بل يأكلونهم!". والأخدام: جمع خادم، وهو المصطلح المتداول شعبياً لذوي البشرة السوداء في اليمن، كما يطلق عليهم اسم المهمّشين في الخطابات الرسمية للدولة، فيما استحدثت السلطات الدينية في شمال اليمن مؤخراً مسمّى "أحفاد بلال" كوسام شرف لهم لانتمائهم لنفس عرق سيدنا بلال بن رباح، مؤذن النبي (ص) رضي الله عنه، لكن المجتمع لا يعترف إلا بمسمّى "خادم وأخدام".
شدّني فضول الصحافي المستقصي للحقيقة للبحث عن حقيقة تلك المقولة التي تُعزْز دوماً بعبارة "لم يرَ أحد منا خروج جنازة لخادم أبداً"، ولأنني لن أجد الحقيقة لتلك الأقاويل إلا من خلال التواصل المباشر معهم بشكل مباشر؛ ولذا كان قرار زيارة مدينتهم في أمانة العاصمة بصنعاء مغامرة لم تخلُ من الخوف، وبحاجة إلى الكثير من الشجاعة.
كان عليّ النزول إلى مدينتهم المحاطة بسور، والتي لا يسكن فيها غيرهم، لكن ذلك لم يتم إلا بعد أن استعنت بمدير مركز الشرطة المجاور لهم، وقد قام مشكوراً بمرافقتي إلى داخل المدينة التي تسمّى "محوى". كان قلبي يخفق خوفاً وقدماي ترتجفان كلّما توغلت في تلك المدينة، فماذا لو قاموا بقتلي والتهام جثتي؟! قصدنا منزل "شيخهم"، وحينما تحدثت إليه، لم أجد هيلمان المشائخ وغطرستهم، إنما وجدت الإنسان البسيط المتواضع رغماً عنه، المكسور، المبتهج بأنّ فتاة (ليست خادمة) تواضعت ودخلت إلى منزله للحديث معه ومع زوجاته وبناته. كما اقترح عليّ زيارة نساء أخريات في بيوتهن، وهناك لامست هموهمن عن قرب، حيث عبّر الجميع عن استيائهم من تسميتهم "أخداماً" أو "مهمشين"، وتساءلوا: لماذا يكون لهم تسمية خاصة بهم أصلاً، وهم بشر كسائر البشر، ومواطنون يمنيون كسائر مواطني هذا البلد؟!.
إلى متى تظلّ هذه الفئة من الناس مقصية في هذا المجتمع وغير فاعلة فيه؟
رأيت بنفسي المسجد الذي تُقام فيه صلاة الجنازة على موتاهم، والمقبرة التي يدفنون فيها موتاهم، وأكدّ لي مدير قسم الشرطة أنه شاركهم في تشييع جنائزهم مراراً.
خرجت بمادتي الصحافية بكثير من الألم والتعاطف والخجل، والتساؤلات: إلى متى تظلّ هذه الفئة من الناس مقصية في هذا المجتمع وغير فاعلة فيه؟ حيث لا نجدهم إلا متسوّلين أو عاملي نظافة في الشوارع، لا يتعامل معهم أحد، ولا يتعاطف مع قضاياهم، ولا يهتم بهم أحد، وكأنهم درجة متدنية جداً من البشر!
لن يخرج أحدهم من تلك القوقعة إلا بقرار حكومي تقوم الدولة بدراسته جيداً من أجل إدماجهم في المجتمع بشكل عملي حقيقي، أي بالتعليم الإلزامي المجاني، وبدعم من يريد منهم أن يكون طبيباً أو مهندساً، أو أن يمتهن أيّ مهنة، أي أن يصيروا مواطنين فاعلين في المجتمع، لا مقصيين عنه، ناقمين عليه.
وهنا، لا يحق لنا أن نصف أنفسنا بالمجتمع المسلم المحافظ والإنساني إلا بعد أن نصل إلى هذه المرحلة فقط، أي حينما نرى من نسميه اليوم "خادماً"، وقد أصبح إعلامياً يعتلي المنصات، مودّعاً تلك العقد، أو طبيباً يفتح بمشرطه صدر المجتمع ليستأصل منه عنصريته، أو مهندساً يصلح ما تلف من أدمغتنا المحشوة بالعنصرية المقيتة المترسبة في أعماقنا.