ملف "العنف والمرأة"... الفاعل المؤثر والمغيّب (18)
عزيز أشيبان
تظل خلف الستار، يطاولها الإقصاء والتعتيم والإجحاف والجحود والتبخيس البنيوي الممنهج المستقر في الأذهان، والمؤثر في التصوّرات وبناء المفاهيم. في مجتمع يقدس الرجل ويستجيب لنزواته، يُطلب من المرأة التضحية بالنفس وحقوقها الطبيعية والفطرية، مع إقصاء الذات وعدم التقدم نحو الواجهة والخلود في الظلّ. تتعايش مع مرارة الوصاية الأزلية، وتُسلب حق التفكير والتعبير عن الذات والمشاركة في صناعة القرار، حتى فيما يخصّها كجنس أنثوي. هي التي تكابد فترات الحمل والمخاض والرضاعة والتربية حتى يشتد عضد الابن الذي يختطف منها، وينخرط في تكريس سلوك الحيف والجحود والإقصاء القائم منذ زمن سحيق.
عندما نقدم على إجراء حفريات في جذور التخلف في المنطقة العربية، بدون شك نجد مقام المرأة ضمن سلسلة العوائق المفصلية في التجارب التنموية، كيف لا وفي تعطيلها إجهاز على نصف مقدرات البلد وسبب مباشر في إفراز الاضطرابات النفسية والذهنية والسيكولوجية. من الغريب أننا نعي جيدا أنّ مقامها المعنوي ووضعها المادي في غاية الخزي والعار، ومع ذلك نأبى أن نقدم على القطيعة مع ما هو شائع من ممارسات وتصوّرات وندّعي الأنفة والكبرياء على من زرع فينا بذور الكرامة.
مما لا شك فيه أنّ الوضع البائس للمرأة في المنطقة العربية هو نتاج مجموعة من العوامل المركبة والمتداخلة والصعبة التفكيك والتحليل. نسلّط الضوء هنا على ما نراه الأصل ومكمن الداء في محاولة للدعوة إلى مساءلة الذات ومراجعة التصورات.
في الواقع، ثمّة بنيات ثقافية وفكرية جامدة أسّست لتصوّرات ضيقة كبّلت أفق التفكير والنقد وجعلت من هذه الأنساق الفكرية يقينيات غير قابلة للطعن أو المراجعة. إذ إنّ كلّ من سوّلت له نفسه الإقدام على طرح السؤال أو النقد نالته اتهامات الانسلاخ عن الهوية المحلية والهرطقة والانحراف والخيانة، بل ووصل الأمر أحيانا إلى حدّ التكفير. نتحدث عن بنيات فكرية تتميز بالانغلاق والتزمت وتدعو إلى العيش في كنف تصوّرات الأجداد وتعرض عن الاجتهاد وتجرّم التنوير وترفض كلّ ما هو جديد حتى يصير قديما.
تظلّ المرأة الأصل في كل ما تنتجه وتقدمه المجتمعات، هي النهر الذي تتدفق منه الخيرات والحسنات وبوادر الإقلاع
باعتبار حساسية الرأسمال الديني لدى المواطن العربي، تحظى التأويلات الفقهية بالمتابعة والاحترام إلى حدّ التقديس عند البعض رغم أنها نتاج بشري خالص يحتمل الخطأ مثلما يحتمل الصواب ويتبرأ من أنتجه من القدسية التي تناله. حقيقة، توفر بعض التأويلات الفقهية الشرعية لاستمرار قيام مجتمع ذكوري على الثوابت والتصوّرات نفسها والإعراض عن الخوض في المقام الاجتماعي للمرأة والاكتفاء باستدامة الترويج لخطاب الهداية ودغدغة المشاعر وعدم استهداف الحقوق المادية والمعنوية وتغيير المعادلة القائمة.
تضاف إلى ذلك الطبيعة القبلية للمجتمع العربي الذي يظلّ مجتمعاً قبلياً بامتياز قائما على البنية الهرمية للسلطة وتقديس الأشخاص. لا مناص من الاعتراف بإخفاق محاولات الإصلاح والتجديد في خلخلة البنيات القائمة والتأسيس لمجتمع مؤسساتي قائم على سلطة القانون والعدالة الاجتماعية والمساواة في ممارسة الحقوق بغض النظر عن الجنس والعرق ليظلّ بذلك الانتماء القبلي مقدّسا وعائقا أمام تجارب نضج الانتماء الوطني والمواطنة الفعالة.
من الناحية النفسية والذهنية، تئن المنطقة العربية تحت وطأة تسيّد أوهام واضطرابات نفسية وعقد نقص لامتناهية تؤثر في السلوك وردود الفعل وتحول دون تحقق العقلانية والتوازن السيكولوجي، إذ توّفر بيئة ملائمة لنشاط الغرائز وتصريف وتفريغ بعض الأمراض والاضطرابات النفسية وتبقى المرأة أحد أهم ضحايا هذا المرتع التخريبي القاتل.
كل ما ذكرناه يبقى في خدمة السياسة التي تسطو على الجميع وتوّظف كل ما هو متاح من عناصر مادية ورأسمال رمزي من أجل تحقيق مصالح خاصة واستئثار البعض بالحكم أو تمريره وتوريث سلالته البيولوجية، فكيف ستبدي الوقار لمقام المرأة وحقوقها الأصلية؟ بل الأدهى من ذلك، تتمادى في استغلالها من خلال مزايدات وحملات دعائية تبطن من الخبث ما لا تبدي من السحر والمثالية والترفع.
تظلّ المرأة الأصل في كل ما تنتجه وتقدمه المجتمعات، هي النهر الذي تتدفق منه الخيرات والحسنات وبوادر الإقلاع، في ثناياها يتعايش المتناقضان: الخير أو الحرمان، إذ قد تجسّد البشارة لما هو آت من غيث ورحمة ورغد عيش أو النذير بقدوم لعنات القحط والفقر والحرمان، وفي نوعية مقامها تحديد للمصير والمآل.