ملف: اللُّغة في فضاءات العنصريَّة (25)
عندما نؤكِّد أنَّ للغة تجلِّيات عدّة، تتنوع وفقًا للمخيال الجمعي في أغلب الأحيان، فإنَّنا -بالضرورة- نتّجه نحو العلاقة الأليفة التي تربط اللغة بآليات الفكر ومراجعات الثقافة الممتدَّة.
يستحوذ سؤال اللُّغة والعنصريَّة على مساحة كبيرة من المسألة الكبرى وهي العنصريَّة في عمومها على اختلاف أشكالها، واللُّغة في هذا الحيِّز تتموضع لتقود خطابًا عادة ما يُنعَتُ بالعنصريّ، والغريب في هذا السياق هو وجود ما يُسَمَّى بعلم اللُّغويَّات العنصريَّة Raciolinguistics، وفي ذلك دلالة على عمق العلاقة التي تربط اللّغة بالتَّوجّه الذي تُصَاغ لأجله، وإنْ افترضنا أنَّ العنصريَّة وغيرها من القضايا التي يفتعلها الإنسان هي تمثيل واقعي للكيفيَّة التي يفكِّر بها الإنسان ويعتقد بصحَّة أفكاره وسلامة خيالاته، فإنَّ ذلك الافتراض -في حقيقة الأمر- يؤول في الأحايين كلّها إلى معضلة كبرى، وهي ضربٌ من الصراع الخفيّ المولِّد للفوضى، والمُؤسِّس لخطاب الكراهية في المخيال الجمعي.
وحيث إنَّنا نُعنى في هذا السياق بالمنطلق الفكريّ الذي يسوقنا - بطبيعة الحال- إلى النتاج اللُّغويّ، والبحث في نوعيَّة ذلك النتاج، فإنَّ المأمول هو الوصول إلى تناسق منطقيّ بين مضمون اللُّغة ومادَّة العقل، وحين نقول إنّ العنصرية متفشِّية في الغرب؛ فإنّنا لسنا أبرياء منها. لم تكن العنصريَّة يومًا مسألة بسيطة يُستهان بها؛ فقضية العنصريّة تُعزَى في جوهرها إلى الإقرار بمعياريّة الموقف تجاه مسائل متعدِّدة، إذْ تلعب العنصرية دورا خبيثًا في الجذب والإقصاء، التقبّل والكراهية، التسطيح والتجويف، أعتقد أنَّها من أخطر المسائل كونها جزءا لا يتجزأ من ثقافة ممتدة، والذي يجعل المسألة أكثر سوءًا هو احتماليَّة أنْ يكون الواحد منَّا عنصريًّا دون وعي منه.
تلعب العنصرية دورا خبيثًا في الجذب والإقصاء، التقبّل والكراهية، التسطيح والتجويف، أعتقد أنَّها من أخطر المسائل كونها جزءا لا يتجزأ من ثقافة ممتدة
ولكي تكون منصفًا في منأى عن العنصريّة ومواضعها، فلا بدّ أنْ يتموضع عقلك في لسانك، إذْ إنَّ العنصريَّة ليست مقتصرة على اللون والعرق والقبيلة والجنسيَّة والجنس ذكر أم أنثى، إنما تمتد إلى أبعد من ذلك؛ فالخطاب العنصريّ ليس سوى واحد من مجموعة ضخمة من الممارسات العنصريّة المنحازة؛ اللّغة واحدة من الكيانات التي صُبغَت بصبغة عنصريّة، وأقصد هنا اللّغة وما يندرج تحتها من مسألة اللّغة واللّغة الأخرى، واللّهجات المحكيّة في اللّغة نفسها.
وفي خضم الحديث عن العنصرية هناك مَنْ يوجِّه نظرة الاحتقار إلى جماعة معيَّنة تتحدَّث بلهجة معيَّنة، فيبدأ بتجنّب التحاور معهم، وينفر من التعامل معهم دون أي مبرر منطقيّ، والحدث نفسه قد يحصل مع المتحدِّثين بلغة ما غير اللّغة التي يتحدّثها الشخص العنصريّ، إنَّ مواجهة الخطاب العنصريّ بخطاب عنصريّ مضادّ لن يقَّزِم من حالة العنصريَّة؛ بل سيزيد الأمر سوءًا.. ومن هذا القبيل أيضًا، وهي القضيّة الأبرز في مجتمعاتنا العربيّة الحديثة، إنَّها ظاهرة إقحام اللّغة الأجنبيّة في مواضعها وفي غير مواضعها، ظنًّا من أصحاب هذا التوجُّه أنَّهم بهذا الفعل هم من القلة التي ليس كمثلها أحد.
وفي هذا تجنٍّ على اللّغة الأم، وقد تُرجِم هذا الموقف إلى نزعة الشعور بالدونيّة التي باتت منتشرة بين أبناء العربية، وجنوحهم نحو اللّغة الأجنبيّة، سيبدو ذلك -افتراضيًّا- أكثر "ذكاء" أو "ثقافة". إنَّ الوسط العربيّ مخترق جدًّا بهذه العينات التي تعاني عطالة فكرية وتختزل التاريخ الإنساني في سلسلة من ردود الفعل الجاهزة التي تنمّ في جوهرها عن عقدة دفينة.
وهذا يطرح من جهة: هل المثقف العربيّ عنصريّ تجاه اللّغات الأخرى، أو بعضها؟ والجواب بلا منازع لا جنسية للعلم والثقافة والفكر ما دام يفيد في معرفة الآخر والاستفادة منه، لكنَّ ذلك لا يعني انسلاخك عن لغتك الأم، والشعور بالدونية إنْ لم تتحدَّث اللغة الأجنبيَّة، أمَّا حديثك باللغة العربية يُشعرك بالنقص والمستوى المتدني فهذا بحدِّ ذاته طامة كبرى تدل على عدم الوعي بأهمّيّة اللّغة الأمّ في السياقات المختلفة. وتقودنا هذه المسألة إلى التطرّق إلى قضيّة تغوّل اللّغة الأجنبيّة على السيادة اللّغويّة؛ ممّا يؤدّي في نهاية المطاف إلى غياب مفهوم الاستقلال اللّغويّ الذي يترتّب عليه -بطبيعة الحال- غياب مشهد الاستقلال الثقافيّ، والجنوح إلى التبعيّة بكلّ ما تحويه من أبعاد لغويّة، وثقافيّة واقتصاديّة وغيرها.
وجدير بنا في هذا الإطار أنْ نشير إلى أهمّيّة اللّغة الأجنبيّة في مواضع عدّة، لكن ذلك لا يُسوِّغ لمستعمليها تجاوز الحدود، لتتصدَّر المشهد اللُّغويّ بدلًا من اللُّغة الأمّ. وفي ضوء ذلك لا بدَّ من البحث في عقلنة المشهد اللُّغويّ وإعادة ضبطه وفق خطَّة لغويَّة حكيمة؛ فلن تنهض أمّة دون لغتها.
والبحث في أيّ مسألة تتعلق باللغة بشكل أو بآخر هي بالضرورة بحث في كيفية صياغة المعنى من خلال اللغة، ولو أنَّ المعنى غير موجود فاللّغة حينها ستكون ضربًا من العبث، ولذلك حين نتّجه للبحث في مسألة اللّغة والعنصريّة فإنَّ ذلك يقودنا لا محالة للبحث في حيثيّات المعنى الذي ساق المُتكلِّم لتعبئة اللُغة بالمعاني العنصريَّة، فاللُّغة في أساسها أداة نعبِّرُ بها عن المعاني التي نريدها، لذلك لم نقل اللّغة عنصريّة، إنَّما الأفكار في ذهن الإنسان هي العنصريَّة، وعنصرة اللّغة هي خطاب كراهية في مضمونه.