ملف: اليمنيات.. سجينات باسم الجنة (32)
كان الحاج "أحمد" البالغ من العمر 65 سنة من إحدى قرى عنس في اليمن، يريد الزواج بزوجة أخرى لا تنجب كي تهتم له بالأراضي الزراعية في قريته؛ على الرغم من أنه يسكن المدينة منذ سنوات. وقد اختاروا له من القرية "عتيقة"، وهي امرأة في الثلاثينيات، ترملت بعد زواج دام عدّة سنوات ولم تنجب، فتمّ الزواج. كان لا يلتقي بها إلا إذا ذهب إلى القرية ليأخذ منها غلّة المحصول الزراعي الذي تمّ جنيه، وعندما شعر بأنّ منيته قد دنت، طلقها كي لا ترث منه شيئاً، مات بعدها بأيام.
تلك القصة دوّنها الأديب اليمني الدكتور بشير زندال، في مقدمة كتاب ترجمه بعنوان "حياة النساء في اليمن.. حكايا صديقتي فرانس هوس"، الذي كتبته الكاتبة الفرنسية، كلودي فايان وصدر عن مؤسسة أروقة، ويتحدث عن النساء اليمنيات ومعاناتهن في الفترة (1950-1969). ويحكي زندال أنه عايش تلك القصة بنفسه وشبّهها بحياة أمه المؤلمة، ما دفعه إلى ترجمة هذا الكتاب، اعترافاً منه بأنّ الرجال ما زالوا يئدون المرأة ويسحقونها في بلاد العرب مهما كذبوا بادعائهم غير ذلك، ودعاهم إلى مراجعة أنفسهم في معاملتهم لنسائهم وبناتهم.
يسلّط الكتاب الضوء على حياة النساء الاجتماعية والخاصة، وبالأخص معاناتهن في إطار الزواج، حيث تورد الكاتبة العديد من قصص زواج القاصرات اللاتي تزوّجن قبل خمس أو ثماني سنوات من سنّ البلوغ، وهناك أيضاً الضغط على الأرملة بتزوّج أخي زوجها، أو تزويج الفتاة الصغيرة بزوج أختها المتوفاة بما يشبه التعويض له، ما دفع بعض النساء إلى الهرب أو الانتحار، وأوردت قصصاً لفتيات صغيرات جداً قُتلن لأنّ الخوف دفعهن إلى التهرّب من العلاقة الزوجية.
أوكلت إلى المرأة أمور عضلية منهكة، فقد حكت أمينة (إحدى النساء اللواتي وردت قصصهن في الكتاب) جملتها المؤلمة "لكي نأكل يجب أن أحمل الماء حتى يثقب رأسي"، بينما سعيدة، كان زواجها الثاني وهي بالكاد تبلغ الثالثة عشرة من عمرها برجل تزوّج قبلها خمسة وعشرين امرأة، ثم أنجبت له سبعة أطفال توفوا جميعهم قبل أن يبلغوا عامهم الثاني، ولم يتوقف زوجها عن الزواج إلا بعد أن صار عاجزاً جنسياً، وقد بدّد أمواله في تلك الزيجات لمجرّد أنه كان يحب "التغيير"، واستمرت سعيدة في زواجها به بالرغم من عجزه، إضافة إلى أنه كان يضربها ولا يفكر في غير مضغ القات، وقد بدت عليها ملامح الشيخوخة، رغم أنّ عمرها 35 عاماً فقط.
الرجال ما زالوا يئدون المرأة ويسحقونها في اليمن وبلاد العرب، مهما كذبوا بادعائهم غير ذلك
تحدثت الكاتبة عن لطيفة، اليتيمة التي رماها أخوها في المستشفى، بعد أن استخدمها كخادمة لزوجته وهرب، فأخذتها امرأة لتربي أولادها وبقيت عندها حتى زوّجتها. وحكت الكاتبة أيضاً عن ضرائر متعايشات مع بعضهن؛ فهن يرين أنفسهن مملوكات للشخص نفسه، وهو المتصرّف فيهن. ثم لم يفتها الحديث عن "العين الخبيثة" وكمية النساء المؤمنات بها، وعن الضرائر، ومرض الشيطان، وهنا أوقفني الألم عن مواصلة قراءة باقي الكتاب.
تمنيت أن أختم مقالي هذا بتفاؤل أكثر بالحديث عن النساء اليمنيات الناجحات اليوم، لكن القصص التي وردت في الكتاب استدعت من ذاكرتي الكثير من القصص التي سمعت عنها أو عايشتها بنفسي، فالنساء اليوم يجري تجهيلهن بتعمّد من السلطات الذكورية، ليصبحن في خدمة "السيد" أو أدوات للأعمال الشاقة، مجرّدات من إنسانيتهن وكرامتهن. فكلما كانت المرأة جاهلة، تسهل برمجتها لخدمة الذكورة والعبودية والتسلّط، ولا سيما حينما تكون البرمجة مشبعة بالخرافات المرتبطة بمعنى الطاعة والجنة والدجل المشروع. ففي مناطق يمنية يتم منع تنظيم الحمل، حيث تُرغم النساء على الإنجاب المتكرّر المتتابع باسم الدين، والترويج لتعدّد الزوجات كسنة نبوية، ويعتبر رفض المرأة لها شرك بالله؛ ليصبح الأمر سمة اجتماعية لا اعتراض عليها ولا جدل فيها، ولتعود اليمن بهذا إلى قرية صغيرة نائية يسودها الظلام، تغرق نساؤها في الجهل والخرافات والأساطير المطرزة باسم الجنة.