موتى فوق الأنقاض
يرتبط تأثير الصدمة بنوع المسبّب وقوته، ويمكننا معرفة حجمها اليوم إذا نظرنا في عيون الأطفال وتصرفاتهم، أولئك الأطفال الناجون من الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا.
كثيرون منهم لم يفهموا الرعبَ الذي عاشه أهلهم لحظة وقوع الزلزال، لكنهم شعروا به، شعروا بخوف كبير يحيط بأهلهم الذين حملوهم راكضين خارج المنزل إلى الظلام والمطر والبرد والرعد، والأطفال مشدوهون من هول الحدث، لم يصرخوا ولم يبكوا لشدّة المفاجأة، بل بقوا يراقبون بذهول هيجان الناس حولهم وصراخهم.
حتى اليوم، وبعد أكثر من عشرة أيام على وقوع الزلزال، ما زال أطفال كثيرون يخشون النوم بعيداً عن أحضان أمهاتهم، وآخرون لا يجرؤون على الاقتراب من السرير والاسترخاء للنوم، ومنهم من بقي أياماً يرفض الدخول إلى منزله خوفاً من أن يُعاد الحدث مرة أخرى، وهو في الداخل.
هؤلاء الأطفال المصدومون، والناجون من الزلزال، يُعتبرون محظوظين مقارنةً بمن انطفأت أنفاسه تحت الركام، أو خرج من تحته دون والديه أو أحد أفراد أسرته، إذاً ليس هناك ناجون، الجميع ضحية، ولكن اختلفت درجة الفجيعة.
الهروب، هو كلّ ما فكر به الناس في المدن المنكوبة، تجمّعوا في الشوارع ليملأوا السماء ذعراً، بعد ساعة من الحدث، وحين بدأوا يعون ما جرى، لم يجرؤ أحد منهم على الصراخ مرّة أخرى أو البكاء، بل كانوا يُسكِتون بعضهم: "هسّ، هسّ.. ولا كلمة، البنايات انهارت على سكانها... الحمد لله ما زلنا أحياء"!
نحن في سورية شعبٌ منكوبٌ منذ أكثر من عشر سنوات، ولكن كانت هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها هذا النوع من المصائب. إننا نرى استمرار الكوارث في بلادنا بشكلٍ متتالٍ، وازدياد عددها مع كلّ سنة، وهولها، لكن هذه المرة، كانت أكثر زلزلةً حقاً.
البنايات كومة من الحجارة المبعثرة، وكأنها لم تُبنَ يوماً. وحين مررت بقربها لم أستطع تخيّل أنّ هذا الركام كان بناية عالية مليئة بالناس، مضاءة وتفوح من مطابخها رائحة الطعام، لا بدّ أنّ هناك خطأً ما؛ إذ كيف تتحوّل الحياةُ إلى خرابٍ وعدمٍ في لحظة؟!
ما زلنا لليوم تحت تأثير الصدمة، تابعنا بترقّب رفع الأنقاض منتظرين إنقاذ أرواح جديدة، وخُذلنا حين عرفنا أنّ عمليات الإنقاذ قد انتهت أو توقفت، لا أدري بالضبط.. لكنّ المفجع أنه لم يعد هناك ناجون!
نحن في سورية شعبٌ منكوبٌ منذ أكثر من عشر سنوات، ولكن كانت هذه هي المرة الأولى التي نشهد فيها هذا النوع من المصائب
تابعنا عمل الناس الحثيث لمساعدة من نجا في لحظةٍ من انهيار منزله، صديقي الذي عمل لأيام مع فرق الإنقاذ قال لي: "لا أريد الحديث عن الأمر، حدثيني عن أي أمرٍ آخر... لن تستوعبي ما رأيناه، وأتمنى ألا تعيشي يوماً، ما عشناه، كان الأمر مرعباً للغاية، موجعاً جداً!".
كان لديّ فضول لأعرف ما شعر به الناس لحظة وقوع الزلزال، وحين سألتهم، وجدت أغلبهم قد انتظروا في أماكنهم بقلوب وَجِلة انتهاء الزلزال مع موت أو دونه، كثيرون لم يغادروا أَسِرَّتهم لمعرفتهم أنّ الوقت لن يكفيهم للهروب، ومنعتهم غزارة الأمطار في الخارج من أن يتشجعوا في ذلك. الأطفال ركضوا واختبأوا في أحضان أهلهم، العجائز لم يبرحوا فراشهم، منهم بسبب مرضٍ، ومنهم لبطءٍ في حركته، لذا استسلموا لقدرهم وبقوا، ونجوا.
بعد أيام من حدوث الزلزال، فكرت أن أكتب مقالاً عمّا حدث، لكني شعرتُ أن الأمرَ صعبٌ للغاية، لا شيءَ هاماً أمام هذا المُصاب، وكأنّ الحياة قد توقفت، وأنّ أي شيء نكتبه لن يصف جزءاً مما حدث، ولن يوفيه حقه.
الشيء الوحيد الجميل كان اندفاع كثيرٍ من السوريين لمساعدة منكوبي الزلزال بحماسة وإنسانية، ليشعروا أنهم ليسوا وحدهم، وأنّ هناك من يقف إلى جانبهم، وقد أثبتوا بجدارة أنّ الفقراء أكثرُ كرماً من الأغنياء، ولو وُجدت بعض الاستثناءات.
آلمتني قوافل المساعدات التي وصلت إلى سورية، ونخوة العرب الذين قدِموا لمساعدتنا، كنت أتابعها بعيون دامعة، ليس لرفضها حتماً، بل لأننا، منذ سنوات طويلة، لم نجد من يقف معنا في محننا، كنا وحيدين دوماً، والمتعاطفون كانوا أحاديي الجانب.
شعرت كما اليتيم الذي عاش دون أهلٍ لسنوات طويلة، ثم تلقى حناناً وعطفاً من الآخرين.
حتى اليوم ما زلنا نعيش الصدمة، والبدايات، الأرواح التي خسرناها كانت مفجعة ومؤلمة، ولكنّ القادم غير مبشّر أبداً، فمئات العائلات تشرّدت بلا مأوى، ووحده السوري يدرك ماذا يعني أن تفقد منزلك في سورية، في ظلّ الغلاء الرهيب لكلّ شيء، وفي زمنٍ صار فيه امتلاكُ المنزلِ، عامل الأمان الأول للمرء، حلماً، بعدما كان أمراً ممكناً ولا يتنازل عنه، فكيف إذا تحقّق الحلم ثم خسرناه ثانية؟!