موتى مصر.. والصداع المزمن!
بعد سنوات طويلة في الحياة، وعقود من الكفاح والعلم والأدب ودفع الثمن والضرائب لكلّ المواقف الممكنة في حياتهم، وبعد شهادتهم على أزمنة صعبة، وأوقات عصيبة مرّ بها الوطن، وبعد مشاعر إنسانية قاسية وثقيلة، ومعارك حياتية شديدة، خاضوها بكلّ بسالة ونضال، أخيرًا، نام عظماء مصر في مثاويهم، وارتاحوا من الاختبار الطويل الذي أنفقوا فيه أعمارهم، وارتاحوا، حتى يوقظهم المنادي يوم القيامة، فينالوا ما عند الله.
لكن، قبل ذلك النداء بوقت لا يعلمه إلا الله، فُوجئوا بمنادٍ آخر، ينخر الأرض فوقهم. ليس زلزالًا، ولا إعصارًا، ولا كارثة تمحق القاهرة عن بكرة أبيها فلا يكونون مستثنين من ذلك، وإنما بلدوزر، جرافة، تقف فوقهم بثلاثة أمتار على الأكثر، تهدّ الشواهد، وتنبش القبور، وتنتهك حرمة الأجساد والأرواح، تكاد تُدغدغ ما تبقى من عظامهم، وهي تسير بتعجرف غير مكترثة بالراقدين في الأسفل، لأنّ أحدهم يريد تطويق المدينة بمزيد من الكباري في الأعلى، ولا يرى الأموات إلا أمواتًا، فليُدفنوا في أيّ مدفن والسلام، أو حتى فليُلقَ بهم في البحر، المهم أن نمحق القاهرة المشوّهة بشواهد قبور هؤلاء، والمناطق التي حولهم، ونبني جمهوريتنا الجديدة التي تطلّ على أنقاض القدامى.
في كلّ صباح، بينما يستمر نوم الموتى الطويل، يفاجأون بالصوت ذاته، والعامل الذي يقود الجرافة لا يفهم كلامهم، يقول له الشاعر أحمد شوقي: "قَد كُنتُ أوثِرُ أَن تَقولَ رِثائي.. يا مُنصِفَ المَوتى مِنَ الأَحياءِ"، فلا يفهمه، يحدثه زملاؤه في المقابر المجاورة، بالعلم، والفنون، والجاه، والسلطان، والتاريخ، فلا يفهمونه، يحضرون محمود سامي البارودي، فارس السيف والقلم، يفاوضه، فلا يفهم أيًّا من اللغتين، لأن الكتّافتين اللتين على كتفيه، تراكمت النجوم الشرفية فوقهما، حتى صارتا تسدان أذنيه، فلا يسمع إلا نفسه، ولا يرى إلا ما يرى.
لم يكن يظن الشاعر أحمد شوقي، في أسود قصائده، ولا في أسوأ كوابيسه، أن يأتي يومٌ ويكتب أحدهم على مقبرته بخط قبيح "قرار إزالة"، أو أن يقرّر أحدٌ ما في مكتبه، أن ينقل رفاته وهو ميت إلى مكان آخر، بعيدًا عن رائحة القاهرة العتيقة، وتاريخها المخزّن في تفاصيل التربة والجدران والجوّ.
عظمة القاهرة تكمن في أنّ الذين حَيوا فيها دُفنوا أماكنهم، فبقي ذلك بركةً لها، كأنّهم الجبال، إن أزيلوا ستمور الأرض وتهتز، حتى تبتلع آلات الهدم ومن يُعطون الأوامر من الأعلى
ولم يكن يتخيّل الكثير من الضحايا الأموات، في مقابر الإمام الشافعي، ولا مقابر السيدة زينب التاريخية، ولا أهل الجبّانة، من علماء ومشايخ وأدباء ورجال تاريخ وفن وبناة نهضة هذه الأمة، أن يصيبهم ذلك الصداع المزمن حتى وهم جماجم، بسبب آلةٍ حديدية لا تكفّ عن الضجيج ولا الصياح، ولا تملّ من الهدم وطمس المعالم والإرث الذي تركوه، يقودها سائقٌ أقصر من أن يرى قممهم، وأحقر من أن يدرك عظمة أثرهم.
حين تعيش في القاهرة أو تراها من الأعلى، ستجد المشهد المشوَّه الذي كان بسبب الدولة والنظام في كلّ مرة على مدار عقود طويلة، ويعيشون فيه على الرغم من ذلك، لا يصلحه أو يخفّف أثره قليلًا إلا المقابر التي تجاور أحياءهم، ستجد القاهرة مزيجًا منسجمًا للغاية، وعصيًّا على الفهم في الآن ذاته، جمالًا مركبًا يغلب قبحًا مورثًا، صورةً لا تكاد تستوعبها أبدًا إلا حين تضع القطع متجاورة؛ الموتى والأحياء معًا، عظمة القاهرة تكمن في أنّ الذين حَيوا فيها دُفنوا أماكنهم، فبقي ذلك بركةً لها، كأنّهم الجبال، إن أزيلوا ستمور الأرض وتهتز، حتى تبتلع آلات الهدم ومن يعطون الأوامر من الأعلى، وحينها فقط، سيعود الموتى إلى مراقدهم مرتاحين، بلا حاجة إلى مسكّنات لذلك الصداع المزمن، لأنهم قضوا عليه إلى الأبد، وهم واثقون من ألّا تجرؤ آلة أخرى على إزعاجهم، حتى يُبعثوا في أمان الله.