نهاية محزنة للشاعر وليس للشعر
الشاعر "الحديث" إن جاز التعبير، لا ينزل عليه الوحي، ولا تأتيه الكلمات من وادي عبقر، ولا يولد وقد كتب على جبينه: شاعر، بل لقد أصبح شاعراً في الغالب بالمصادفة، وبحكم بعض الظروف والمحفزات الوراثية أو المكتسبة أو هما معاً، التي تدفعه أكثر إلى الإدمان على هذه العادة: عادة كتابة الشعر، التي تنشط داخل منطقة ما من الدماغ، أو من القلب، أو من مكان آخر مجهول له خصوصيته الشديدة التي تجعل طبيعة الشعر مختلفة عن طبيعة إبداع آخر كما قد يبدو لنا. تلك المنطقة التي ينشط داخلها هذا الفعل الفني ليست خاصة بالشاعر وحده، أو بفلان، أو فلان الآخر، بل هي قدرة إنسانية يملكها الجميع، إلا أنها تظل خاملة نائمة في غياب ظروف ومحفزات توقظها. ما يؤكد هذا هو قدرة من لا يكتب الشعر ويتبرأ منه، قدرته على تذوقه وتطابقه مع القصيدة أو مع النص الشعري كأنه كاتبها أو كاتبه، ما يعني أن الشعر كان نائماً خاملاً داخله وقد أيقظته القراءة.
وكما يتطور كل شيء يتطور أيضاً فهمنا للشعر ووعينا به توازياً مع تطور فهمنا لذواتنا وللعالم مستفيدين في ذلك مما حققته الإنسانية من تراكم على طول تاريخها. ومن هنا شعر اليوم لا يمكن، أو لا يجب، أن يكون هو شعر الأمس، ويصح ذلك على الشاعر نفسه.
إننا اليوم لسنا أمام هبة سماوية أو أرضية اسمها الشعر قد توهب لبعض الناس دون غيرهم يوحى إليهم أو يلقى في خواطرهم، بقدر ما نحن أمام مجهود وعمل دؤوب وقلق مضن ومتعة أيضاً وتحدّ، وهي أدوات من يختار هذا المصير، مصير أن يصير شاعراً. أدوات للحفر والتنقيب داخل تلك المنطقة الخاصة بهذا الفن داخل أجسادنا وأرواحنا. عمل يومي، وحفر يومي، وإقامة يومية في لغة الشعر وأسئلته ونظر طويل في منظاره الخاص الذي يرى الشاعر العالم من خلاله. وكلما كانت الإقامة هناك أطول، والمجهود أكبر، والعمل متواصلاً، اتسعت تلك المنطقة ورحبت وأعطت ثماراً أكثر وألذ، وكلما أُهمل ذلك ذبلت تلك الثمار وجفّت الأغصان.
إنه إذن عمل ليس إلا، وتفرغ كامل ما أمكن، وتحويل لكل ما يعيشه الشاعر في يقظته وفي منامه أيضاً عن وعي وعن سبق إصرار وترصد إلى مادة أولية لإنتاج الشعر.
الشعر أوسع وأشمل وأبعد، فهو تعبير كامل عن الوجود وعن الإنسان، وحالة "هيولية" ضبابية من الوعي أكثر مما هي تجسد لذلك الوعي
وبعد ذلك كله.. يصبح من المقلق للشاعر أن يتخصص في الشعر وحده، كبائع خضار يتخصص في بيع الطماطم وحدها فقط مثلاً، بل حين يفهم الشاعر جيداً أن الشعر يكمن في اللغة وليس في الكلمات، وأن تلك المنطقة الخاصة بالشعر في جسد الإنسان وروحه هي منطقة لغة وليست منطقة كلمات، يوسع ورشته ليعبر عن الشعر بأنماط تعبيرية كثيرة تتجاور فيما بينها وتتقاطع وتتلاقح وتتصادم، إذ إن الشعر ليس هو القصيدة، بل القصيدة هي شعر، بينما الشعر أوسع وأشمل وأبعد، فهو تعبير كامل عن الوجود وعن الإنسان، وحالة "هيولية" ضبابية من الوعي أكثر مما هي تجسد لذلك الوعي، يمكن إفراغها في قصيدة، كما يمكن إفراغها أيضاً في لوحة، أو في رواية، أو فيلم، أو آلة موسيقية، أو عبر نظرة صامتة إلى الشفق أو إلى البحر أو إلى المقابر إلخ.. رغم اختلاف هذه الأشكال التعبيرية وتمايزها واستقلال بعضها عن بعض إلا أنها تنتمي إلى الجذر نفسه والفصيلة نفسها والمنبع نفسه، كما تنتمي الطماطم والبطاطس واللفت إلى الخضراوات، وكما ينتمي الكلب والذئب معاً إلى العائلة نفسها، بل تلغى الحدود والفواصل بينها أحياناً لتصير واحداً منصهراً في بعضه، بل حين تشترك في المادة نفسها، كالشعر والقصة والرواية والمسرحية والسيناريو، التي تشترك كلها في التعبير عبر الكلمات وعبر الكتابة، تصير الحدود أكثر هشاشة، ويصير تمرين الشعر بمعناه الحديث هو نفسه تمرين القص والسرد والإمساك بالتفاصيل. وما يجعل من تلك الحدود هشة أكثر هو حين يتخلى الشاعر عن القناعة التقليدية التي يظن بموجبها أن الله قد اختاره ليكون شاعراً، وأن الشعر فوق السرد والنثر على حسب التحديدات الأفلاطونية، ومن ثم يصير من الصعب عليه تقبل أن يصير قاصّاً أو روائياً.
لقد اختاره الله ليبيع الطماطم فقط، ومن الغرابة عنده أن يبيع آخرون الفلفل اللاذع أيضاً قرب الطماطم معتبرينه خضاراً، رغم ما قد يثيره هذا التصنيف في المعجم من مشكلات: هل الفلفل اللاذع خضار أم فاكهة أم ماذا؟
هؤلاء الذين يستغربون أي انتقال سلس لكاتب، إذ قد نخلص إلى استبدال كلمة شاعر بكلمة كاتب، يضمر استغرابهم استنكاراً ومدحاً تقليدياً للذات مفاده كيف يتجرأ هؤلاء على كتابة القصة أو الرواية منتقلين من جنس الطماطم إلى جنس الفلفل، هذا الاستغراب المتقاعس يؤكدون به دون أن يقصدوا ذلك غالباً إخلاصهم للطماطم وتفاخراً كلاسيكياً بذلك أكثر من استغرابهم لمرأى الفلفل، لكن الذي يغفلونه هنا هو كيف لا تتجرأ على الرواية وقد تعتبر هذا امتيازاً، في حين تظل تتجرأ على الشعر؟
إن الخطورة تظل قائمة دائماً أينما وضع الإنسان قدمه، والمبدع ما هو إلا ذلك الإنسان، سواء في كتابة الشعر أو كتابة رواية أو كتابة مقالة أو في النجارة أو في الخياطة أو في بيع الخضار أو في الهندسة إلخ.. والمبدع الذي لا يخاطر ولا يتجرأ ويخطئ ويتعلم من أخطائه لا يبرح مكانه، بل يظل حيث بدأ. بل أكثر من ذلك يعتبر نفسه قديساً منزّهاً عن الخطأ متناغماً في ذلك مع صورة الشاعر في الأساطير وليس في الواقع.
إن الشعر يتغلغل في كل شيء، بلغته وليس بالكلمات فقط، وعليه أن يتغلغل في كل شيء، وعلى الشاعر أن يسعى بكل قوته إلى ذلك، وأن يعوض أوهامه العبقرية عن العالم وعن الشعر بوعي واقعي ومادي لا تعوزه العاطفة لكن لا تفسده.
ليس غريبا أبدا أن يكتب الشعراء الرواية، أو الأفلام الكرتونية، أو حتى أن يصيروا كتاب رسائل عموميين في الشارع أو رسائل غرامية للعشاق بمقابل أو مجانا حتى. كما ليس غريبا أن لا نجد روائيين يكتبون دواوين شعرية، فهذا ببساطة لأن الروائيين يكتبون الشعر داخل رواياتهم، محولين الشعر إلى أحداث ووقائع ومشاهد سردية تلائم العصر أكثر وتستوعبه أكثر، وليس إلى جمل متقطعة وأبيات وبياضات فقط، فالروائيون ربما أصبحوا اليوم يفهمون الشعر ويتقنونه أكثر من الشعراء، وهذا طبعا لا يعني أن الرواية ستعوض القصيدة أو النص الشعري، بل يعني فقط أن الشعر يختار أشكاله التي يريد، وليس التي نحبسه فيها، وأن هذا التوصيف: شاعر، قد يتحول مع الوقت إلى: كاتب، فقط، مرفوقا بنهاية تراجيدية محزنة: للشاعر، وليس: للشعر.