هكذا أصبحت شبيحاً مخيفاً
كان في المكتب ثلاثة ضباط، جميعهم من القرى المجاورة للقرداحة، ومن المؤيدين بعماء للنظام الحاكم. كان أبو دودة متزعم السهرة والحديث بوصفه الأعلى رتبة والأكثر علماً وحكمة بين الجميع!
جلست بينهم أشرب الشاي كالأطرش في الزفة، مستغرباً الدعوة الغريبة التي منعتني من متابعة الحصاد على قناة "الجزيرة" في مكتب الضابط محمود بصحبة بقية الضباط أبناء حماة وحمص ودرعا. نعم، هكذ كانت الحال، معسكر سني ومعسكر علوي، في الجيش العقائدي!
في خضم السهرة السمجة، حوّل أبو دودة التلفزيون إلى قناة "الجزيرة"، لنتابع نشرة الأخبار وآخر أخبار الثورة! كان الوضع مريباً، قناة "الجزيرة" في سهرة بين ضباط الجيش السوري المؤيدين، وفي غمرة أحداث الثورة الأولى والبث المباشر للمظاهرات والاحتجاجات!
وبعد تقرير مؤثّر لماجد عبد الهادي، قال أبو دودة من غير مقدمات:
قرد والله هذه ليست حالة، البلد لن تتوقف عند شخص، الأشخاص يجيئون ويذهبون، المهم البلد، البلد إذا ذهبت لا ترجع.
مع تلفظ أبو دودة بهذه العبارات الطارئة على مواقفه وأفكاره الاستئصالية التي كانت تدعو للسحق والقتل والسحل، ومع صمت الضباط الآخرين دون أن يظهروا أي رد فعل، بدا جيداً أنني أنا الملازم المجند المسكين ابن محافظة إدلب، كنت فأر تجارب!
لم أنتظر طويلاً، صرخت في وجه العميد دون اكتراث لتسلسل الرتب والفارق العسكري بيني وبينه، قلت: نعم نعم، ماذا تقول؟
الأشخاص غير مهمين والبلد أهم؟ هل أنت بكامل قواك العقلية؟ كل هذه الدول الساقطة تكاثرت علينا لتسقط سيادة الرئيس، وأنت تتفذلك الآن لتساعدهم بهذه المهمة؟ ما قيمة البلد دون سيادة الرئيس؟ ما قيمتك أنت دون سيادة الرئيس؟ كيف سمحت لنفسك بالتفكير بهذه الطريقة؟ هذا أمر لا يسكت عليه أبداً.
ثم أضفت وأنا أهم بالخروج: اقلبوا التلفزيون عن هذه الفضائية العميلة، فمن المعيب أن نتابع نحن ضباط الجيش قناة عميلة تروّج للمؤامرة التي تستهدف قائدنا وبلدنا.
بعد قليل كان أبو دودة يطرق علي باب غرفتي، وحاول جاهداً إفهامي أنه ما كان يقصد المساس بالذات القدسية للرئيس، وأنه كان يفكر بالبلد فنسي نفسه!
منذ تلك الليلة تغيّر كل شي، أصبح اسمي الرفيق محمد، وبات أبو دودة يدللني بزيادة كميات الطعام بشكل واضح، ويسر إليّ بآرائه عن الضباط الباقين، والعناصر الذين يتخوف منهم ومن مواقفهم وربما نيتهم في الانشقاق. في حين كنت أتلقف منه معلوماته وأوصلها إلى أصدقائي الضباط الآخرين، الذين كانوا بدورهم يحذرون العناصر ويسهلون لهم الفرار أو الانشقاق من القطعة قبل الاعتقال، وهكذا أمضيت عدة أشهر أصبحت فيها مستودع السر، والخبير الاستراتيجي، والمحلل الفذ، ورأس الممانعة وأساسها!
آخر عهدي بأبي دودة كان يوم انشقاقي، حملت حقيبتي ونزلت مدعياً قضاء بعض الساعات في دمشق، فبدأ الضباط الأصدقاء يودعونني بحرارة وهم يعلمون أنني متجه إلى إدلب منشقاً، فتدخل أبو دودة بعنجهيته المعهودة قائلاً: قرد، شو رايح ع الحج، كلها كام ساعة وراجع!
ساعة أبي دودة بلغت اليوم خمس سنوات، وأبو دودة رفض في الفترة الأولى تصديق أية أخبار عن انشقاقي، كان يؤكد لهم أن العصابات المسلحة قامت باختطافي دون شك. ولكنه عندما شاهد منشوراتي على "فيسبوك" وغيره بهت! وأعلن أن الخائن محمد السلوم كان الوحيد الذي استطاع خداعه طوال عمره، وحرمه طعم النوم طيلة أيام وهو يخشى أن أسلخه تقريراً أمنياً كعادة ضباط الجيش الأسدي في التعامل بعضهم مع بعض!