هل ستتأثر تركيا بعد ترحيل 1.5 مليون سوري؟!
من المعلوم يقيناً بعد مفاعيل الثورة السورية والتي شكّل التدخل الدولي فيها تداعيات سلبية زادت من بِلة طينها وحمأة مستنقعها، طمعاً بأجزاء من جغرافيتها الفريدة وثرواتها العديدة، حيث استطاع أن يُثبت لنفسه قدم وجود فيها بشكل أو بآخر..
من المعلوم أيضاً أن السوريين لم يخرجوا بشكلٍ مباشر من سورية، إلا بعد عمليات نزوح داخلية عدة. زار خلالها الكثير منهم أجزاءً من سورية لم يخطر ببال أحدهم قبلاً أن يزورها، وإذ به يمر في حقول ألغام عبارة عن مزيج من الولاءات الدولية والإقليمية المتصارعة في ما بينها.
ومن أجل الفرار من هذه التيارات المتصارعة على أرضهم، آثر الملايين من السوريين التوجه إلى دول الجوار المحيطة، وكان نصيب الجارة "تركيا" نصيب الأسد، حيث حلّ قرابة 4 ملايين سوري ضيوفا عليها، وجاؤوا بطرق شتى، قانونية وغير قانونية.
مرت الآن 11 سنة على الصراع على الأرض السورية، وحيث طال مُقام الملايين على أراضي الجارة "تركيا"، جعلها -أي الأخيرة- تدخل في حالة تذمّر كونها حاضنة للملايين في ظل متغيرات دولية وأزمات داخلية أثرت بشكل أو بآخر عليها، هذا من جهة، وتسلل حالة الاستقرار النسبي إلى العقل اللاواعي عند الملايين من السوريين، بُنيت على فكرة أن المقام هنا سيطول، من جهة أخرى.
ماذا لو أعادت تركيا 1.5 مليون لاجئ إلى سورية؟!
هذه الفكرة أشعلت جذوة التصريحات والتحليلات وأثارت قريحة المحللين والسياسيين، إذ إن الأثر المترتب على إرجاع عدد ضخم وهائل من هؤلاء اللاجئين سيترك أثرا ما، كثيرون منهم يرونه سلبيا!
ثم السؤال الأهم هنا، ما هي المعايير التي سيتم وضعها لفصل 1.5 مليون من 4 ملايين تقريباً، وما هي الآلية الإدارية والإجرائية ومن قبلها ما هي قانونية هذا القرار؟!
قبل كل هذا سنذكر بعض التصريحات لمسؤولين أتراك وبعض الإحصائيات..
الكثير منهم استسلم لفكرة "الوطن البديل" حيث يحلم الكثير منهم بامتلاك جواز سفر يخوله التنقل بحثاً عن حياة أكثر استقراراً، وكأن لسان حالهم يقول: "حيث تكون كرامتي فهذا وطني"
بحسب إحصائيات الرئاسة العامة للهجرة التركية، فإن أعداد اللاجئين السوريين بين عامي 2011 وحتى 2022 بلغت قرابة 3.8 ملايين لاجئ، كما في الخط البياني الآتي، ويتركز أكثر من نصفهم في أربع ولايات رئيسية، كما في الجدول التالي:
إسطنبول: حوالي 543 ألف لاجئ - غازي عنتاب: 463 ألفا - هاتاي/أنطاكيا: 433 ألفا - شانلي أورفا: 430 ألفا. ويتوزع الباقون على مختلف الولايات الزراعية والصناعية الأخرى.
في لقاء أجرته صحيفة "حرييت" التركية مع رئيس بلدية هاتاي لوطفي سافوش، في معرض حديثه عن السوريين في ولايته، قال: "إن السوريين يجيدون العمل في قطاعات الزراعة والتجارة وتعهدات البناء".
وعن عمل السوريين في التجارة، قال رئيس غرفة التجارة والصناعة في ولاية أنطاكيا بإقليم هاتاي حكمت سينشين، في لقاء تلفزيوني: "إنّ السوريين وعلى مدار 10 سنوات من وجودهم في هاتاي، أثبتوا جدارتهم في مجال التجارة"، وأضاف: "إنّ الزراعة والعديد من قطاعات العمل في تركيا معرّضة لـ(الخطر) من دون العاملين السوريين"، "وإنّ التجّار والعمّال السوريين ساهموا في تنشيط حركة التجارة والزراعة في ولاية هاتاي".
وأما عن توسع حركة العمران، فقد صرح رئيس بلدية الريحانية حجي أوغلو، بأن التوسّع في مدينته منذ عام 2011 إلى اليوم، تطورت فيه معالم المدينة بنسبة 100%، "حيث كان عدد سكّانها نحو 100 ألف نسمة وحالياً يتجاوز الـ200 ألف، وكل هذه الأعداد تحتاج إلى منازل".
وفي تصريح لصحيفة "تركيا" التركية، قال رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب في تركيا "أسياد" عبد الغفور صالح عصفور، إن حجم استثمارات رجال الأعمال السوريين في تركيا بلغ 10 مليارات دولار، وقال: "في العام الماضي، دعم السوريون صادرات تركيا بأكثر من 3 مليارات دولار"، "وهم يوفرون فرص عمل لقرابة 500 ألف شخص في تركيا، وعدد كبير منهم من الأتراك"، وأضاف: "هناك 3000 رائد أعمال سوري مسجل في غرفة التجارة في غازي عنتاب وحدها، وحوالي مائة شركة في غرفة الصناعة و1445 شركة مسجلة لدى رابطة مصدري جنوب شرق الأناضول، وهذه الأرقام تتزايد باطراد".
وبالعودة إلى قانونية قرار ترحيل 1.5 مليون سوري إلى الشمال السوري، فإن السوريين الموجودين في تركيا خاضعون لقانون الحماية المؤقتة والذي يُنهى بقرار رئاسي ولا يخضع لقانون اللجوء والذي تشرف عليه المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وهم لا يعتبرون رسمياً لاجئين ولا تنطبق عليهم أحكام وقوانين اللاجئين الدوليين.
أما إدارياً وإجرائياً، فإن تركيا وبحسب تصريحات مسؤوليها، تقول إنه لن يتم ترحيل اللاجئين السوريين قسراً وبالقوة، إنما بأساليب الترغيب عبر وضع خطة تم إعدادها تقوم على تهيئة ظروف اجتماعية وخدماتية وأمنية وبنية تحتية وفوقية في المناطق الخاضعة لسيطرتها بالتنسيق مع المجالس المحلية في ست نقاط موزعة على الريف الشمالي الحدودي الموازي لتركيا.
وبالبناء على ما ذكرنا آنفاً، فإن الثقل الذي أوجده الوجود السوري في تركيا على مستوى الأيدي العاملة والكتلة المالية التي تم استثمارها من قبل التجار السوريين ورجال الأعمال وشبكة علاقاتهم الدولية والإقليمية على مستوى الصناعة والتجارة، قام بتنشيط السوق المحلي التركي من جهة، ومن جهة أخرى إشغال العقارات بالإيجارات للخاضعين لبند الحماية والشراء للمجنسين، وحركة البيع والشراء للخدمات والمنتجات بالإضافة للكتلة المالية النقدية بالقطع الأجنبي، التي يتم تحويلها من الخارج عبر الحوالات البنكية وغير البنكية إلى المقيمين داخل تركيا من أقربائهم في أوروبا والخليج العربي!
كل هذا وأكثر.. فأي خسارة ستتكبدها تركيا في فقدها لهذه الإمكانيات المالية وهذه الموارد البشرية مقابل مكاسب انتخابية تعمل على إرضاء جمهور الناخبين والذين تمت تغذيتهم مسبقاً بتصريحات مفرطة باللوم، على أن السبب الأول في ارتفاع معدلات البطالة والتضخم ترجع إلى اللاجئين وليس إلى أسباب موضوعية داخلية بحتة تتعلق بكيفية إدارة ملفات النقد والاقتصاد والسياسة محلياً ودولياً.
في الختام
ما أود الإشارة إليه هو أنه من الصعب بمكان تحديد معايير محددة منصفة تضمن إعادة أكثر من 1.5 مليون لاجئ، إذ لا بد أن يتخلل هذه المعايير فهم خاطئ وتنفيذ تعسفي في تطبيقها على أرض الواقع أو حتى بالترغيب إن تمت مع حزمة الميزات والخدمات التي صرحت بها الحكومة التركية، والتي تتضمن استمرار "كرت الهلال" و"الدراسة على المنهج التركي" وبناء مستشفيات وخدمات حكومية وغيرها. حيث ارتبط الكثير من السوريين في تركيا اجتماعياً بالمصاهرة، واقتصادياً بمشاريع تجارية وصناعية، وعلمياً عبر الكثير من الطلاب في الجامعات والمعاهد، والكثير منهم استسلم لفكرة "الوطن البديل"، حيث يحلم الكثير منهم بامتلاك جواز سفر يخوله التنقل بحثاً عن حياة أكثر استقراراً، وكأن لسان حالهم يقول: "حيث تكون كرامتي فهذا وطني".