يرون الملك ملكاً فقط
يرون المَلك مَلكاً فقط. كما لو أنّه بلا قلب، بلا أعضاء تتعب، وبلا أعصاب تحرق. قصور كثيرة وسيارات فخمة وأرصدة هائلة في البنوك..
حسناً، هذا صحيح، لكن مهنة تكسير الصخور بفأس تحت شمس الصيف اللاهبة أسهل بكثير من مهنة ملك. رغم "الجيتسكي" والغولف واليخوت الملكية. إنها مهنة تافهة، وكلّ ما قد تربحه منها هو التفكير يومياً في الانتحار.
نتيجةُ أن تكون ملكاً هي أن تمرض مرضاً مزمناً، وأن تفقد القدرة على النوم، حينها لن ينفعك جنرالاتك ولا وزراؤك ولا عصاك السحرية التي تقول لكلّ شيء كن فيكون. أيضاً، لن تنفعك كلّ نداءات "العيّاشة" (المتملقين) اللجوجة بـ: عاش الملك.
أن تكون ملكاً، يعني ذلك أنك إنسان بائس ووحيد وبلا صديق واحد. لا يمكن لملك أن يصادق شخصاً من عامة الرعية. هذا انتقاص من شأنه. حين تجعلون من شخص إلهاً، وهو ليس كذلك، تسلبونه إنسانيته، عواطفه، ورغبته أحياناً، ككل خلق الله، في البكاء. إنه الملك، وبالتالي، هو المدبر والمسيّر، الحاكم الحكيم... النينجا، الذي لا يخطئ ولا يتعب. بينما في الحقيقة، إنه ليس سوى شخص عادي من دم ولحم وكآبة. هو بالضبط، ذلك الرجل البائس الذي ترتسم حول عينيه هالتا الأرق السوداوان، وهو بالضبط، ذلك الذي يغفو دون قصد وسط اجتماع الضباط والوزراء والأمراء.
قد يعرق أثناء تدشين، قد يعطس في وجه ملوك أو رؤساء آخرين، قد يتجشّأ أمام مبعوثة صندوق النقد الدولي الجميلة، وأيضاً، قد يضرط تحت طاولة العرش الذهبية أثناء خطاب حاسم. إنه إنسان، وأنا أشفق على الإنسان كيفما كان، وأينما كان، ومتى كان، ومتى لم يكن. أشفق على السكير كما أشفق على العابد الزاهد، أشفق على القاتل كما أشفق على الضحية، أشفق على اليد التي تعطي كما أشفق على اليد التي تعضّ.
أن تكون ملكاً، يعني ذلك أنك إنسان بائس ووحيد وبلا صديق واحد
كان بإمكانه الآن أن يكون حرّاً، لولا مبايعتكم المستمرة والمستميتة له. كان بإمكانه قضاء العطلة كباقي خلق الله في أحد شواطئ شمال المغرب، أو إسبانيا، أو تركيا، أو بلغاريا، التنقل بدراجة هوائية بين مكان الإقامة، وبين وسط المدينة، لحس الأيس كريم أو قرمشة "خرينغو" (مقليات مغربية) على الساحل عند الغروب، "البسبسة" للبنات الجميلات، زيارة المآثر المهدمة في الصباح الباكر والتقاط السيلفيات أمام التماثيل، ثم التبضّع من المولات في فترة التخفيضات السنوية. إلا أنكم تحرمونه من كلّ ذلك، وتحاصرونه بدعواتكم وأناشيدكم وهتافاتكم وبطلباتكم التي لا تنتهي. منكم من يريد وظيفة، ومنكم من يريد مالاً، ومنكم من يريد بيتاً، ومنكم من يريد زوجة، ومنكم من يريد مستشفى، وآخر يريد مدرسة، وآخر شارعاً، وآخر قطاراً سريعاً، وأخرى تريد زوجاً، وأخرى تريد عربة معاقين، وآخر يريد تبليط جدار بيته، والسواد الأعظم يريد "كْريمة" (إكرامية سياقة).. إلخ من الطلبات التي لا تنتهي.
كان بإمكانه أن يكون إنساناً عادياً، يقهقه متى شاء، ويبكي متى شاء، يرتدي البيجامة متى شاء، والشورت متى شاء. ينام حين يريد، ويستيقظ حين يريد. يكفيه كأس شاي وقليل من الزيتون الحار وكثير من الراحة والهناءة. لكن كيف سيستطيع الآن النوم والبلد بأكمله مستيقظ لا ينام. كيف يستطيع ملك أن ينام، وأن يشخر، وأن يحلم، وأن يضحك أثناء نومه والحرس عند الباب برشاشاتهم ورنين الهواتف لا يتوقف، والمستشارون والجنرالات والعمال على الأقاليم والبشاوات والقادة والوزراء والموظفون والعمال والعاطلون بعدد حبّات الرمل وورق الشجر وقطرات المطر، وكلهم لا يعرفون سوى شخص واحد اسمه الملك، ولا يحمّلون مسؤولية حياتهم وموتهم، نجاحهم وفشلهم، سوى إلى شخص واحد، اسمه الملك.
أتخيّل للحظة واحدة أني ملك، فأشعر بسرعة برغبة رهيبة في الهرب. أن يكون مطلوباً مني استقبال وفد، هذا وحده كافٍ لأن أهرب دون حذاء. أما أن يطلب مني تدشين المستشفيات والمدارس والسجون، وأن أجلس خلف الإمام كلّ جمعة بجلباب، رغم أني لا أصلي باقي الصلوات، وأن أرتدي بذلة بربطة عنق وأخطب في المغاربة، فهذا لن يدفعني فقط إلى الهرب حافياً، بل إلى القفز من النافذة من أجل الطيران بعيداً في اتجاه السحاب دون أي نيّة في النزول من جديد إلى الأرض.
لو أنهم نصبوني ملكاً، كنت سأستيقظ باكراً في الغد، سأعقد اجتماعاً طارئاً، يحضره المسؤولون الكبار جميعهم. سأحضر ذلك الاجتماع بالبيجامة فقط، حافياً، وفي يدي بيرة. سأصرخ فيهم: حسناً، هذه القصور كلها لي، واليخوت والسيارات والأوامر والنواهي والأموال.. إلخ، مقابل ماذا؟ مقابل أن أمتطي حصاني طيلة يوم كامل من أيام البيعة؟ من أجل استقبال وفود غبية شبيهة بطائر البقر؟ حسناً، حسناً، عليهم فقط أن يركعوا، وأن يذهبوا كي يزدردوا الدجاج والحلوى؟ بينما عليّ أنا البقاء فوق الحصان بالجلباب والقب والسهام طيلة النهار، حتى تمرّ كلّ وفود القبائل بشيوخها وأعيانها ومعاتيهها؟ وأن تصوّرني كاميرات شوف تي في وأنا على حصاني، كما لو أني بطل في فيلم "الرسالة"؟
مهنة تكسير الصخور بفأس تحت شمس الصيف اللاهبة أسهل بكثير من مهنة ملك
حسناً، حسناً، حسناً، أرجو أن تسمعوا كلامي جيداً، وأن تدوّنوه، فأنا لا أمزح: خذوا كلّ هذه القصور واليخوت والأموال واتركوني أمرّ إلى شؤوني البسيطة، أريد التجوّل في السويقة مجهولاً، عاقداً يدي خلف ظهري كفيلسوف، أريد أن أطلّ على المحيط الأطلسي من أعلى أبراج قلعة الأوداية متذكراً أجدادي القراصنة، أريد شراء حذاء من البالة، وكيس بطاطا مقلية، ونقانق، وأن أقصد بار "ترمنيس" حيث الطاولات تقليدية جداً، والبيرة رخيصة وبائعات الهوى بدينات سوى أنّ موسيقى الجاز المرافقة جميلة دائماً.
هذا قرار ملكي، عليكم جميعاً تطبيقه الآن، أنا أتنازل عن العرش، لا أريد أن أظلّ ملكاً، أفضّل أن أكون شاعراً فقط.
فقط لو سمحتم أريد مليار سنتيم تحت الحساب آخذها معي. مليار سنتيم فقط.. أما إن بدت لكم كثيرة، فهاتوا مائة مليون فقط وأمري لله.. إني أقبل بها شاعراً، ولا أقبل بها ملكاً..