في الكتاب الصادر مؤخّراً عن "دار المتوسّط" (ميلانو، 2016)، بعنوان "إدوارد سعيد من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف"، يرصد الباحث المغربي محمد الجرطي صورة المفكّر الفلسطيني، من خلال ترجمة مجموعة من الدراسات التي كُتبت عنه باللغة الفرنسية، منها دراسات لـ تزفيتان تودوروف وتوماس بروسون ورولان بورنوف، وكذلك لأسماء عربية تكتب بالفرنسية؛ مثل رابعة عبد الكافي وليلى الداخلي وعمار قنديل.
هكذا، يبدو العمل انعكاساً لصورة صاحب كتاب "الاستشراق" في مناخ ثقافي غير ذلك الذي أنتج فيه أعماله (الفضاء الأكاديمي الأميركي)، وغير ذلك الذي ينتمي إليه بأصوله (الفضاء العربي).
لكن الأمر ليس فقط مجرّد انعكاس، فمشروع سعيد الفكري قام من جهته على أدوات فرنسية، خصوصاً الحفريات في الخطاب من ميشيل فوكو وشرارة الفكر ما بعد الكولونيالي مع فرانز فانون، وهو ما تعود إليه بعض المقالات.
من زاوية أخرى، يبدو العمل محاولة لتجاوز حصر سعيد في "الاستشراق"، إذ يضعنا في سياقات عمل المفكّر الفلسطيني، سواء في انتماءاته الأكاديمية (الأدب المقارن)، أو التيارات الفكرية التي بدأت تنضج في السبعينيات (ما بعد الكولونيالية، وهو أحد مؤسّسيها)، أو من خلال انتمائه العربي الفلسطيني وما يفرضه من التزامات ذات بعد مُقاوم.
كثيراً ما طُرح السؤال عربياً، لماذا توقّف نقد الاستشراق كمجرّد بحث نظريّ لدى المفكر المصري أنور عبد الملك، وتطوّر مع سعيد إلى عمل مؤثّر أحدث تغييرات ملموسة في المفهوم والواقع رغم أن عبد الملك سبق سعيد إلى فهم ظاهرة الاستشراق بأكثر من عقد؟
ولعلنا من خلال المقارنة بين نقد هذا وذاك، نفهم قيمة التموقع في الرؤية الفرنسية، إذ إن المفكر المصري اشتغل على المسألة في فرنسا ضمن ثقافة مُنتجة للاستشراق، والتي لها أنساقها (ومؤسّساتها) وتقاليدها التي تفرضها على الباحثين فتمنع وصول أفكارهم إلى آفاق أرحب، الأمر الذي لم يعترض أطروحة سعيد في أميركا، وهو ما يسمّيه الكاتب بـ "تأثير المجال".
يتضمّن العمل، أيضاً، قراءات نقدية لسعيد، فمثلاً نقرأ في دراسة لـ رابعة عبد الكافي أن سعيد "بتأكيده على أن الغرب اختلق الشرق، يُخصي أيضاً العالم العربي ويجمّده في الصورة التي ينزع إلى تخليصه منها"، ثم توضّح استغلال الأصوليين لتحليله، وتشير إلى أنه تفطّن إلى ذلك حين كتب لاحقاً "يبدو أن كتاب الاستشراق أصبح عملاً جماعياً خارجاً عن إرادتي ككاتب له".
يؤدّي ترتيب المقالات بقارئ الكتاب إلى المشهد النهائي الذي يرسمه منجز سعيد، وهو يتمظهر في كتاباته السيرذاتية ومواقفه السياسية واهتماماته المختلفة. إنه أفق مفتوح وشاسع، فـ "لا مجال للبقاء في الهويات الثابتة المتحجّرة"، لأن كل الهويات بحسبه في صيرورة.
تتوافق هذه الرؤية حول الهويات مع رؤية أخرى حول المعارف، حيث نقرأ مقالاً حول قيمة الفضول المعرفي لدى سعيد الذي مكّنه من "تجاوز قضايا الجامعة إلى قضايا العالم".