حتى وإن كانت "الحداثة" على مدى أكثر من قرن مطلباً يُرفع باستمرار وقوة في البلاد العربية، فإن تمريرها على أرض الواقع اصطدم دائماً بمعوقات شتى، ليس فقط بسبب تكلّس البنى التقليدية في المجتمعات بل لأن حمَلة المشروع أنفسهم، أشخاصاً وفئات ومؤسسات وأنظمة حكم، كانت تظهر عليهم أعراض ما دون حداثية.
يولّد هذا الوضعُ تساؤلاً "كيف يمكن تكييف فكرة حداثية مع وعي قروسطي؟"، وهو السؤال الذي ينطلق منه الكاتب الفلسطيني سلامة كيلة في آخر أعماله "الهوية والقومية والحداثة" الذي صدر في عام 2015 عن "دار نون".
يؤمن صاحب "النهضة المجهضة" بأن "الحداثة غير ممكنة دون ترابط عناصرها"، وما جرى في معظم الحالات هو "قبول مبدأ وتجاهل آخر". من هنا، يتتبّع تلك الشروط التي جعلتها ممكنة في الغرب، ويعيد تحليلها ضمن سياقات التاريخ العربي، مثل الهوية والقومية والعلمانية.
يتخذ كيلة في كتابه مجموعة من القضايا كزوايا نظر لمسألة الحداثة، مثل الدين والطائفية ومسألة الأقليات والقومية والمواطنة، وهي قضايا مترابطة إلى درجة لا يمكن حلّ إحداها أو فهمها بمعزل عن البقية.
يعتبر المؤلف أن التكوين التاريخي ثم القوى الاستعمارية وضعا المنطقة في "شكل موزائيكي" ومن ثمّ جرى "التعامل سياسياً مع المنطقة انطلاقاً من أنها تتشكل من قبائل وطوائف وإثنيات وأقليات لا يربطها رابط". كان هدف ذلك هو "تكسير الطابع القومي العربي وتأسيس كل الظروف التي تسمح بالتفتت والتفكك وبالتالي نشوء الدويلات والإمارات والكيانات بدل تأسيس الدولة الأمة".
من خلال هذه النظرة إلى الخلف، نفهم مع كيلة الطريقة التي انبنت من خلالها الأوضاع العربية، أي كيف تمت "إعادة إنتاج تناقضات الماضي في حاضر تجاوزها واقعياً". هنا، يلاحظ المؤلف أن "حوارات الأديان أو نقاشات الطوائف لا تخرج عن سبل البحث عن تعايش هش، أو عن تكييف لعلاقات متقادمة مع وضع حديث، يسمح بتعايش طبيعي مع وجود التمايزات".
إذا كانت منطلقات التحليل تعود إلى جذور الحداثة في الغرب ومن ثم انعكاساتها فوق الخارطة العربية، فإن المؤلف يصبّ تحليله في الراهن، تحديداً في مسارات "الربيع العربي" المتشعّبة حيث يلاحظ أن "الثورات" المتتالية أظهرت الترابط العربي أكثر مما أظهرت الافتراق رغم كل سنين العمل من أجل تكريس الدولة القطرية وتكريس الوعي الديني والطائفي والمناطقي والوطني"، ويضيف أن هذه الثورات "اخترقها شعور الترابط هذا، ويتأسس في قعرها الشعور بأن الصراع واحد وأن الأفق واحد".
في سياق توضيحه للعلاقات بين الهوية والقومية وشكل الدولة الذي تأسّس عربياً، يطرح كيلة سؤال "هل من تاريخ للدولة القطرية؟"، وهو سؤال يحيله إلى سؤال آخر "هل تستطيع هذه الدولة أن تشكل هوية بعيداً عن الهويات التي تبلورت في التاريخ؟".
تأتي الإجابة بالنفي، إذ يصعب على الهويات الجديدة القفز على الهويات الراسخة، لذلك فإن هذه الدولة القطرية أخذت تبحث عن سبل لتأكيد تاريخية ما.
وبما أن تاريخها ليس أبعد من التاريخ الاستعماري فإنها اتجهت نحو طبقات عميقة من التاريخ، فـ "جرى ربط الفينيقية بلبنان والكنعانية بفلسطين والفرعونية بمصر والآشورية والبابلية بالعراق. والآن يُكتشف تاريخ الأردن منذ عمون ومؤاب وبهذا باتت الدولة القطرية ممتدة منذ فجر التاريخ مشكلّة حضارة خصوصية وكيانية مستقلة".
كل هذه الانتماءات تدعمها فئات على خلفية "رفض ما"، ضد الإسلام لدى البعض وضد القومية الحديثة وانغلاقها المحلي لدى آخرين وغيرها من أنواع الرفض.
يسمي كيلة هذه العملية بالربط الشكلي الساذج، حيث أن الوجود المكاني لبقايا حضارة لا يسمح بتأسيس هذا الربط، مشيراً إلى أنه لا يستعيد حدود الإمبراطورية التي تنسب الدولة نفسها إليها، ولا مشاريعها التاريخية والحضارية (الامتداد البري، السيطرة على البحر...)، فلا يبقى من هذه العملية سوى أنها "قص للماضي بما يناسب حدود الدولة"، تلك الحدود التي "رسمها القلم الاستعماري".
في آخر فصول الكتاب؛ "التخلف والحداثة"، يقدّم المؤلف تفسيرات التخلف بين من يلقي اللوم على الاستعمار، ومن يرد أسبابه الى عوامل ذاتية، "هكذا ضاعت القضية بين الـ نحن والآخر، واتخذ تقريع الذات طابعاً مازوشياً ما أضاع النظر العلمي وأسّس لخلق تبريرات للاستعمار والرأسمالية".
يرى كيلة أن "كل طرف يطرح مبرّرات صحيحة في الغالب لكن كل طرف ينحكم إلى نظرة أحادية صورية فلا يلمس سوى طرف من عنصرين في معادلة متماسكة" ليجد التخلف فرص الاستمرارية في مساحات لا يصلها "النظر السطحي".
ينقل كيلة التساؤل عن سبب استمرارية التخلف إلى فضاء عالمي، حين يتلمّس "انعكاس التطوّر العالمي على أوضاعنا" فـ "تطوّرنا المحلي يخضع لسياسات قوة متفوّقة، وقد صيغت البنى الاجتماعية وفق مصالح الرأسمالية ذاتها" والتي تظهر في فئات تقف ضد كل صراع جذري مع الرأسمالية وتميل إلى التكيّف معها وبالتالي تجد من مصلحتها أن تُبقي المجتمع في مستواه المتخلف.
يُنتج هذا الواقع وعياً مبتسراً بالحداثة، من بين تجلّياته الحياة السياسية، حيث أن دفاع البعض عن الديمقراطية يأتي دون مجمل مكوّنات الحداثة، إذ يبّين كيلة أن هذا المفهوم تحوّل إلى شعار ضد الأنظمة، أي أنه يُستخدم كـ "نكاية في صراعات تهدف إلى تصفية حسابات وليس إلى تحقيق الحداثة".
الديمقراطية في هذه الحالة لو تحققت فلن تكون سوى ديمقراطية توافقية شكلية، برأي المؤلف، وهي تتناقض مع الحداثة لأنها تعيد إنتاج البنى ما قبل الحداثية (الطائفية والأغلبية الدينية) وهكذا يصبح "الانتخاب" هو شكل إعادة إنتاج التخلف. النتيجة هي "حداثة ملوّثة بالتخلف"، وما تحقق بعد أكثر من قرن من رفع شعار الحداثة في البلاد العربية هو نفس وضعنا القديم و"لكنه محسّن قليلاً".
إنه وضع أفضت إليه مرة أخرى جولة الحراكات العربية بعد 2011، غير أن ظهورها كـ "تسلسل متتال لثورة واحدة"، يجعل سلامة كيلة يأمل أن تتطوّر إلى ثورة واحدة حقيقية.