سنة 1937، صدر كتاب تعليمي للمؤلّفين المصريين الشاعر علي الجارم (1881-1949) والصحافي مصطفى أمين (1914-1997) بعنوان "البلاغة الواضحة". الكتاب، في ظاهره، لا يزيد عن كونه تبسيطاً لقواعد البلاغة التقليدية، التي توارثتها أجيال الشُرّاح يتعاهدونها، منذ قرون، بالتقعيد والتنظير.
وقد قسَّم الكاتبان مجالاتِها، وفقاً للتقليد الألفي، إلى ثلاثة؛ البيان، ويُعنى بصور العُدول المجازي؛ والمعاني، وتهتمُّ ببلاغة التراكيب والأبنية النحوية؛ والبديع، ويختص بأوجه التحسين اللفظي (الموسيقي) والمعنوي. ثم تفرَّعت هذه الأقسام الثلاثة بحسب أساس الصورة البلاغية القائمة إمّا على التشابه مثل: التمثيل والاستعارة والتشبيه، أو على التصاقب مثل الكناية والمجاز بنوعَيْهِ: المُرسل والعقلي.
أضاف الكاتبان، في كل باب، سلسلةً من التمارين والتطبيقات، مما جعل الكتابَ سهلَ المتناول، مساعداً على الاستيعاب السريع بمفاهيم الفصاحة، بعيداً عن تعقيدات القدامى وإيغالهم في التفريع. ولذلك نال حظوةً كبيرة في الأوساط العلمية والتعليمية، وطُبع عشرات المرات منذ تاريخ صدوره.
وما يزال، إلى يومنا هذا، يُدَرَّس في سائر جامعات العالم الإسلامي، من الأزهر، إلى الزيتونة وحتى في الحوزات الإيرانية والأروقة الهندية، فما هو سرُّ هذا الرواج الباهر لكتابٍ مدرسيِّ الطابع؟
أول هذه الأسباب هو أسلوبه التوضيحي التبسيطي، فقد شهد الدرس البلاغي العربي قروناً من التعقيد النظري والتفريعات التفصيلية لصور البيان حتى جاوزت المائة، وكانت تحلل بأقيسة منطقية تقتل حسَّ الجمال وتخنق شعريّة النص، وتنحلُّ إلى تعليقاتٍ جامدة، تغرق الوجدان في سيلٍ من الاصطلاحات الجافة. فتكاثرت الشروح، ولا سيما على "مفتاح العلوم" للسكَّاكي، بعد أن دشنها الخطيب القزويني في "الإيضاح"، ولخَّصها مالك بن بدر في "المصباح".
فكانت المقاربة البلاغية تكراراً لما سبق من شواهد الشعر وغرائب الصياغة وتعقيبًا على وسائل أسلوبية، لم يعد غالبها يروق للذائقة الحديثة مثل التزام السجع والجناس، وهو السبب عينه الذي دفع الكاتبَيْن إلى إقصاء الشواهد القديمة، وتجنب الحوشي منها، والاقتصار على السهل، إضافة إلى إدراج مقاطع من نثر المتأخرين.
وهو الذي حملهما أيضاً على تحرير مقدّمة رائعة حول تصوّرهما الحديث للفصاحة. فجاء الكتاب واضحاً في تقسيمه الثلاثي، يسيراً في عرضه للقاعدة والتنصيص عليها، متكاملاً بما فيه من تطبيقات عملية يتدرّب بها القارئ على تمثل المفهوم واستخراجه من النصوص. وهكذا، غدت البلاغة ملكةً فعلية وذائقةً فنية يُميَّزُ بواسطتها بين جميل الكلام وسقيمه.
ويمكن تفسير هذا الرواج ثانياً بالرهان المعرفي الذي حقّقه هذا الكتاب: إذ كان بمثابة إنقاذٍ لفن البلاغة من موتٍ محقق، إثر الحملات التي قادها رواد التجديد في الشعر والنثر ضدّ الكلاسيكية، ومن أعنفها ما كتبه العقاد والمازني ونازك الملائكة.
وكلهم دانوا جفاف النبع الشعري، والتكلف الواضح في تيار الكلاسيكية المحدثة، علاوةً على تأكيد عقم الجهاز البلاغي في شكله القروسطي. وهكذا، كان تيسير الكاتِبَيْن للبلاغة وتجديدها أشبه بإعادة تأهيلٍ لهذا الفن الرئيس حتى لا يتهاوى. وفي ذلك ترغيب للناشئة في التمكن من هذا المنهج العريق، بعد أن عرفت فترة ما بين الحربين عزوفاً عن الأدب وأدوات تذوّقه، وصار الاشتغال بها ضرباً من العبث.
إذن، كان وراء الغاية التعليمية للكتاب رهانٌ بعيدٌ: نقل التراث الجمالي من حقل البلاغة، بعد أن مات أصحابها ونصوصها، إلى حقل الأسلوبية الحديثة. ووُلدت من هذا النقل مناهج التحليل الأدبي المعاصرة، فتصدّت لتأويل الأجناس الأدبية الصاعدة مثل الرواية والمسرحية والشعر الحديث، وهي الفنون التي عجزت بلاغة الأقدمين عن استكشاف عوالمها وألاعيبها، وما أدق توصيف الراحل تزيفتان تودوروف حين قال: "الأسلوبية هي الوريث الشرعي للبلاغة".
* "صدر قديماً"، زاوية جديدة في القسم الثقافي لموقع وجريدة "العربي الجديد"، تختص بتقديم قراءات في كتب قديمة صدرت باللغة العربية وما زالت تنبض بالراهنية.