"موسيقى لأجل الوحوش" مجموعة للشاعرة البنميّة جيوفانا بنيديتي (1949)، والتي حصلت عنها على الجائزة الوطنية للأدب "ريكاردو ميرو"، تضم بين جنباتها أربع مجموعات: موسيقى لأجل الوحوش (قصيدة في خمس عشرة أغنية) و"غواية الغياهب" و"حدائق متلاشية" وأخيراً "عُقَد وقلاس".
اختارت بنيديتي أن تُعمّد كتابها هذا باسم مجموعتها الأولى، لكن الكتب الأربعة تؤلّف منظومة متكاملة لغة وأسلوباً وتقنية ورؤية؛ تقدّم إجابات للقارئ وتبني له حقائق من ذاتٍ تطمح إلى أن تعرّف بنفسها، وبما حولها من عوالم صدوراً عن تصوّر للكتابة لا يخلو من وعي بأن الزمان الحاضر يستجمع الزمان الماضي كلّه ليثبّته في الـ هنا والآن.
تتوسل بالقصيدة إجاباتٍ ملؤها الوضوح الصاعق، حتى لكأنها تتبنى رأي الفيلسوفة الإسبانية ماريا ثامبرانو حين ذهبت إلى أن: "الشعر إجابة، بينما الفلسفة سؤال. فالشاعر يصل إلى الحقيقة قبل الفيلسوف. والإجابات تجعل العالَم ألطف وأكثر أمناً".
يستنفر شعر بنيديتي الحواسّ والوعي معاً، ويدعو قارئها إلى الانتباه إلى طراوة كلماتها التي تستحضر تجارب ذاتيّةً معيشة، وتستدعي قراءات متنوعة من حقول معرفية وفنية، وتلتفت إلى التاريخ بوقائعه وعبره. كما تعمد إلى التقاط لحظات من المعيش اليومي، ومن التأمّل في الطبيعة: "معلّقة/ في الأزرق، تستحوذ القطرة الساكنة على ومضة برق/ وتنحت شكل لؤلؤة/ جامدة: كأبديّةٍ/ منحوتةٍ في دهشةٍ من قِبل صخرة/ والورع البسيط للماء الصافي. فيردّ إليها الحوض النظرة سالمةً/ تحت شمسٍ تصيّر أطواقاً القرابينَ/ المسقيّةَ بماء المطر/ فوق الخبز اليومي".
تتأمّل الشاعرة الذات مثلما تتأمّل الحياة أيضاً، وتتدبّر الوجود والسلوك والأشياء، ثم تعيد خلقَها بلغة شعرية أساسها الإدهاش، لأنها تصيّر صوتها ملتقى أصوات عديدة تتحدّثُ عبرها، ويكون النجاح حليفها في هذه المغامرة التي تصهر فيها الذاتيّ مع الجماعيّ، بل إنها تمنح صوتاً لما لا صوتَ له شأن قصيدة بعنوان "القصيدة": بالأظافر، وأنا مسهّدة، بعينين متعبتين/ أبحث عن ذلك الصوت الذي يدنو وينأى/ بحرف مترع في لغة البكاء/ في التحرش الأعمى لضوضاء تخبط/ بدءاً من عهد إيمان وهو سماء مرصّعة نجوماً/ يُذلّ العواصف، ويُعمّر بلاد البؤس/ يمسك بيد الملاك/ يأتي في إهاب شيطان/ يقتفي سبيل العفريت، والحوت، والنّبض؛ وذاك الظّل الذي يهرب مع غناء الفجر/ ويعود راجعاً في مركب شبح".
لا تتردد الشاعرة في طلب القصيدة، بيت عالمها بمختلف الوسائل الممكن منها والمستحيل، وهي تتسلل إليها مسَلّحة بمهارة استعارية عالية وتدفّق صور وتشكيل أصيل، ورؤية إنسانية نافذة، كلٌّ يجد مأواه في بيت شعري يُحكم صنعة الكلام، حيث لا شيء يترك شارداً.
تتخلّق الحياة شعرياً في "موسيقى لأجل الوحوش" من رحم الكلّ الملتبس والمنصهر، فنجدنا أمامَ دعوة إلى تغيير نظرتنا إلى الحياة والواقع بتحريض من القصيدة، ومن ثَمّ الفعل في الواقع، أليست بنيديتي هي القائلة: "الشعر هو وعي الشعب، إنه يعلّمنا مواجهة مخاوفنا، والحقائق، وما نرغب في تغييره. إنه يحرك الجماهير". وهي بذلك تؤكّد ما ذهبت إليه ابنة قارّتها وأختها في الشّعر واللّغة القَشتاليّة غابرييلا ميسترال من أنّ "الشّعر سلاح معبّأٌ بالمستقبل".
تُحسن بنيديتي وفادة الوحوش التي تتقنّع في الحياة بوجوه شتى، فتهبها ما يصحّح مسيرها، تمنحها الموسيقى التي قال عنها نيتشه: "لولا الموسيقى لكانت الحياة خطأ". فلا لغة أقدر من الموسيقى على ضمان التواصل والإحساس بروعة الحياة وقيمتها من هذا الفنّ الذي لا يحتاج نظاماً لغوياً ولا جهازاً صوتياً.
تقدّم الشاعرة مأدبةً موسيقيةً شعريةً لأعداء وأنصار الحياة والحرية والحب والوجود والطبيعة، اختارت الشعر باعتباره أكثر الأجناس الأدبية موسيقية؛ الموسيقى وليمة، ولا شيء أجمل منها، لكنها تكون أبهى حين التحامها بالشعر. يقول بول فرلين في قصيدة يعرّف فيها بشعريّته "الموسيقى في المقام الأول/ قبل كلّ شيء".
تكرم الشاعرة وفادة هؤلاء جميعاً بالموسيقى، إنها ضيافة تستهلّ بمنح الآخر ما لا يتوقعه؛ الجمال الخالص، دون تطلّع إلى نيل مقابل، ودون شرط معرفة من يكون، الضيافة تكون هنا للغريب المجهول غير المرئي، الذي قد يكون مغترباً أو مهجّراً أو تائهاً أو ضالاً. إنها في الحقيقة وفادة لقارئ مفترَض وإكرام له بموسيقى تتلبّسها كلمات.
"الذاكرة" أبرز ثيمة تهيمن على المجموعة؛ تشقّ الشاعرة بوساطتها كثبان الذكريات، تمضي على مهل إلى واحات مليئة بالحياة تنتشر في أرجائها، فتستردّ الحميم والجميل والإنسانيّ الذي يُقيم فيها، مثل النخيل مشرفاً على الأقاصي، مانحاً الظلّ والحياةَ والأمل في الحضور هنا والآن.