صدر كتاب الفيلسوف المغربي محمد عزيز لحبابي "من الحريات إلى التحرر" أول مرة باللغة الفرنسية سنة 1956، عن دار "أوبيي"، وبمقدّمة للفيلسوف ومؤرخ الفلسفة الفرنسي موريس غونديلاك. وبعد أكثر من عقد، صدرت نسخته العربية عن دار "المعارف" في مصر عام 1972.
يعتبر الكتاب جواباً على مفهوم الحرية كما طوّره الفيلسوف الفرنسي برغسون، كحرية باطنية أو كديمومة للأنا العميق في استقلال تام عن المجتمع والآخرين. لكن، لم يكن للحبابي (1922-1993)، أن يفهم الحرية بشكل عام ومجرّد كما فعل برغسون ولا بشكل فردي، ويقول معبراً عن ذلك: "إن الشخصانية الواقعية تنفي وجود "الحرية" لأنها تؤكد وجود "حريات" تتكامل داخل حركة دياليكتيكية، لتحقيق التحرّر".
وفي موضع آخر يكتب لحباببي :"لا توجد حرية، بصفة مطلقة مجردة، ونقصد أن الحرية الحق لا تكون "لازمة" كما يقول النحويون. إن كل حرية تكون "متعدية" وإلا بقيت بدون محتوى". وفي موضع ثالث: "لا يستطيع الفرد تحقيق حريته إلا بقدر ما يبقى متصلا بالآخرين، أي بقدر ما يخضع إرادته إلى الإرادة العامة". إن لحبابي يعترض على الحرية المجثتة، تلك المتعلقة بالفرد فقط، ـ أو تلك الحرية التي وصفها أدورنو في "الجدل السلبي" بالشاحبة ورأى أنها لا تتحقق إلا في البنية الفوقية ـ وينادي بحرية تشمل مجموع مجالات الحياة.
لكن لنعد إلى مفهوم برغسون عن الحرية. ما هي العناوين الكبرى لهذه الحرية؟
إن مفهوم برغسون عن الحرية، يأتي جواباً على ما وصلت إليه فلسفات عصره من أن الحرية والفرض الخارجي لا يلتقيان. فلا حرية إلا في غياب كل مانع خارجي، كما سبق وعبّر هوبز عن ذلك بوضوح ومن بعده سارتر. يرى برغسون أولاً أن نظريات الحرية القائمة في عصره، عجزت عن وصف الحرية بشكل دقيق. إنه يرى أن القرار الحر ينبع من الروح بأكملها، والفعل يكون حراً بقدر ما يتماهى مع ما يسميه برغسون بالأنا الأساسي (Le moi fondamental) أي الأنا الذي يشكّل مجموعاً تاريخياً. والحرية في رأيه انعكاس لمجموع تاريخ الشخص وذاكرته، أو تعبير عن ذلك.
"باختصار -يقول برغسون- نكون أحراراً حين تنبع أفعالنا من مجموع شخصيتنا، حين تعبّر هذه الأفعال عنها، وحين يتحقّق لنا مع هذه الشخصية ذلك التشابه الذي لا يمكن تعريفه، والذي نجده أحياناً بين العمل الإبداعي والفنان".
لكن هل يمكن فعلاً أن أفهم الحرية انطلاقاً من ذاتي فقط، كقرار داخلي؟ أوليس الفهم الذي يقدّمه برغسون للأنا وللتاريخ فهماً مجثتاً وميتافيزيقياً؟ وأليس هذا اللجوء إلى الماضي، هذا الماضي الذي نعتبره مفسراً لسلوكي الحالي، هو إخفاء للإمكانيات الأخرى المتاحة أمامي، كما كتب سارتر منتقداً برغسون معتبراً أنه يهرب من القلق الذي يسببه الخوف والذي يكون جوهر الحرية في تصوّر سارتر. أجل إن سارتر لا يقول بأن الحرية لدى برغسون تقوم على ضرورة أن يكون المستقبل مجرّد انعكاس لتحديدات سابقة عليه، لكن فعلي الحرّ يظل مجرّد تعبير عن ماهيتي وانعكاس لها. إنه فعل يشبهني وينبع من داخلي.
وبهذا المعنى فإن ماهية الإنسان، هذه الماهية المجثتة، تسبق وجوده وتحدّد إمكانه، وإن الأنا العميق، كما وصفه سارتر في لغة تقترب من السخرية، يخلق أفعاله كما يخلق الأب أبناءه. إن الأنا العميق هو حقيقة الذات، وما حريتي سوى نتاج له وتعبير عنه، إنها ابنة ماهيتي وليست ابنة وجودي. وهو ما يتناقض مع فلسفة سارتر الذي يتحدث عن التمزّق الداخلي الذي يميز الوعي، والذي يقوم على فكرة أن ذاتي ليست أساساً لما سأكونه، لأن وجودي هو وجود في الحرية، لعبة إمكانيات. وبذلك يكون برغسون قد أغفل أن الطبيعة الحدثية للفعل الحر، هي انفصال وقطيعة عما كنته، وأغفل البعد الأنطولوجي للخوف الذي يأتي ليهدّد تلك الراحة الميتافيزيقية للأنا والتي تقوم على تماهيها مع ماضيها.
وعلى الرغم من أن برغسون في كتاب آخر، يؤكد أن الفعل يخرج من تاريخ الشخص، لا ينفي وجود شيء مطلق الجدة فيه، أنه يمثل تقدّماً بالنسبة إلى معطياته السابقة، إلا أن ذلك لا ينفي البتة أن الفعل الحر لا تقوم له قائمة خارج الأنا العميق. ومن يعتقد بأن الحرية البرغسونية التي يحدّدها مجموع الأنا، هي حرية حقيقية، لأن لا شيء يحدّدها سوى هذا الأنا، ينطلق من مفهوم ميتافيزيقي للذات وللحرية، كما نعرفه من المثالية الألمانية وخصوصاً من فيشته. إن برغسون في فصله بين الحياة الداخلية والحياة الخارجية، لا ينقد الأنا والحرية، ولكن يزيد من غربتهما عن الواقع، باعتبار أن حريتي، في نهاية المطاف، مجرد تجسيد خارجي لديمومتي الداخلية.
لكن الإنسان، يكتب لحبابي: "ليس مونادة، ليس فكرة مجردة، إنه كائن مجذر في أرض وتاريخ". ليس اعتباطاً أن ينطلق لحبابي من دراسة مفهوم الحرية عند برغسون؛ فعلاوة على أن الأخير أثّر في كل التيارات الفلسفية التي أعقبته، ومنها الشخصانية والوجودية، وأنه شغل حتى خصومه الأشداء، وأعني الماركسيين، فإن مفهومه للحرية، يتردّد صداه عميقاً في تاريخ الفلسفة وإن في صور مختلفة كما هو الحال عند فيشته. إن أهم ما انتبه له لحبابي ـ في رأيي ـ في نقده لمفهوم الحرية عند برغسون، هو إغفال الفيلسوف الفرنسي لبعد اللغة، وحسابها على الخارج، بل واعتبارها غير قادرة على التعبير عن الحرية. لحبابي يحرّر "الأنا" من انفصامه بين السطحي والعميق، الداخل والخارج، فالأنا، وحتى لا أستعمل كلمة "كل" التي وصفه بها لحبابي، هو دائماً في الخارج، مع الآخرين. وقضية التحرّر تاريخية لا وجدانية.
ولهذا من حق لحبابي أن يتساءل: "كيف الحصول على حلول لتلك الأزمات المتولدة عن الحضارة التي نعيش فيها والتي تتعقد يوماً بعد يوم؟". ليجيب: "لن تجد الأجوبة على مثل تلك الأسئلة مكاناً داخل فلسفة تقوم على ازدواجية العالم، حيث تبقى الذات غريبة عن بيئتها، وحيث يبقى الواقع منحصراً في الحياة الداخلية لا غير. فالواقع، في البرغسونية، عوضاً عن أن يكون واقعاً للذات المندمجة اندماجاً كاملاً في العالم، بمجموع كينونتها وشخصها، يبدو أولاً وقبل كل شيء، مرادفا لـ"الأنا العميق" ولـ"الديمومة الصرف" ولـ"العفوية". فـ"الحرية"، حسب برغسون، لكي تكون حرية واقعية، يجب أن يحياها "الأنا العميق"، تلقائياً في الديمومة.
بيد أن الكائن البشري لا يغرق كلياً في ذاتية أناه، إنه يحيا في محيط ضروري حيوي، إنه مادي وفيسيولوجي، بقدر ما هو نفساني". إن لحبابي يؤسس لحرية أقتسمها مع الآخرين، أو لحريات تتحقّق في علاقتي معهم ومع العالم، تحرّر الإنسان من الاستلاب والحرمان. إنها حريات تلخصها كلمة واحدة: التحرّر، والذي "يحقّق الحريات تحقيقاً مادياً ملموساً، ويحيّنها تاريخياً". وليس من مرادف هنا للتحرّر سوى المسؤولية.