"جولة حول حانات البحر الأبيض المتوسط" للكاتب التونسي الساخر علي الدوعاجي (1909-1949)، أثرٌ في أدب الرحلة أصيلٌ، لكنه يختلف عما عهده القارئ من أساليب الجِدّ في هذا الجنس من القول، خصوصاً إبّان النصف الأول من القرن العشرين وما قبله.
فلم يَجُب صاحبه الدوعاجي مواطِن العمران وعجائب البلدان، ولم يَجُس خلال معالم التمدن، كما دأب على ذلك معاصروه وسابقوه من رواد النهضة، بل طاف بالحانات ورافق أهل الاصطياف، فأقام لـ"السخافة" عرسَها واعتنى برسم ملامحها في ذلك العصر، في جولة شملت إيطاليا وفرنسا واليونان وإسطنبول، منتقلاً بين مدنها الساحلية التي تحيط كقلادة بهذا "الأزرق البهي" الذي يفصل شمال أفريقيا عن أوروبا، ولكن يجمع الشعوب بين ضفتيْه، لتقاربِ ما بينها من الطبائع والخصال.
وقتها، كانت تونس، وطن الدوعاجي، ترزح تحت نير الاستعمار، غير أن ذلك لم يكرّس فيه عقدةَ الدونية، بل عبر البحر في رحلة سياحية، تماماً مثل نظيره الأوروبي...المستعمِر. وهذا أصل القصة الواقعي.
وأما ما عداه من المشاهد التي صوّرها بريشته الساخرة، فميِّزْ أنت ما فيها من تجنيح الخيال وإبداع البيان، حيث استباح "فنان الغَلْبَة"، (تعني: المقهور باللهجة التونسية) أراضيَ الغربيين واقتحم عقرَ دارهم، يستكشف عوراتِهم ويُسقط عنها ورقة التوت. ولا معنى بعد ذلك لتعاليهم ولا لتعالـُمِهم الذي صوَّرَه بتَهكمٍ، مَزجه بمحاورات الند لندّه، مبرزاً أنَّ للعربي أيضاً حقّ النقد وتجاوز الذات، وعليه واجب إظهار تناقض الغرب ومفارقات أهله: ركّز على المرأة السمينة، وفي وجهها دمامةٌ، وهي تزعم معرفة كل شيءٍ مع أنها، في الحقيقة، من التافهات. وسخر من زوجها الدكتور المنقاد، الذي لا ينبس ببنت شفةٍ أمام نزواتها. هذا على ظهر السفينة التي كاد أن يَثقبها، بلاذع سخريته، حتى يغرق أهلَها.
وأما البرُّ، فقد ظهرَ فساده. صوّر الدوعاجي مثلاً خراباً أبعد من خراب الهياكل في أثينا، وفي أحيائها سخر من سخافة حسناء يونانية وعابث تصوّراتها الخاطئة، كتلك التي تحملها بعض نساء الغرب عن العربي. فهِمَ لُعبتَهم، فتلاعب بها وأوقعها في حبائله حين أظهر ضحالةَ تفكيرها: صدّقت أنه ابن شيخ قبيلة عريقة، وأنه قاد في الصحراء المعارك، وأنه تزوج باثنتي عشرة امرأة بيضاء، بعد أن أهداهنَّ كمهر عشرين جملاً... ليس "المتخلف" مَن يأتي هذه الفظاعات، فهي ابتكارات خيال، بل مَن يصدّقها دون أدنى حس نقدي. وفي مدينة نيس الفرنسية، سخر من الموضة أولى حبائل عصر الاستهلاك، وكذلك فعل في نابولي وبالرمو.
نُشرت هذه الرحلة في مجلة "العالم العربي" ابتداء من أيلول/ سبتمبر 1935 وتتابعت فصولها إلى غاية شباط/ فبراير 1936، ثم أعادت مجلة "المباحث" بإشراف محمود المسعدي نشرها بين شهري تموز/ يوليو وأيلول/ سبتمبر 1944، أي في حياة كاتبها.
وأعيد طبعها قبل سنتين حيث يقول، في تصديرها، الناقد التونسي توفيق بكار: "وأعجب عجائب هذه الرحلة لسانُه في التصوير والتعبير، عربيته أصيلة فصيحة فتية. لها - لو نَفطن- في رحيله رحيلٌ، وأيُّ رحيل. فارقَت معه أوطانَها وما ألفته من بيئتها من ذوات الأحياء وصفات الأشياء لتغامر في ربوعٍ كل شيء فيها أو تكاد. جديدٌ عليها غريبُ المكان والإنسان وأنواع المصنوعات ومعادنها والأشكال، فتسميها، وهي شُجاعةٌ، بأسمائها الفصيحة، وتفي بها ولا تُخلّ".
ليس نادراً أن يطالعنا أدب الرحلة بين الحين والآخر بنص سردي تتجلى فيه شجاعة الضاد حين تستعيد "عجائب" البلدان. ولكن عادةً ما تغلب على مادته الواقعية والوصفية الباردة أو بالعكس السوداوية وألمُ وعي الفرق الشاسع بين المغترب العربي وبين بلدان أوروبا أو شرق آسيا المتطور.
أما هذه المواءمة اللطيفة بين تصوير الرحلة والسخرية فمجالٌ بكرٌ نفيس، بقيت فيه تجربة الدوعاجي فريدة، إذ لم تكن غايته وصفاً لارتحال، بل عبثٌ باللغة واحتيال، هو في صميم النقد الساخر، وأحياناً الكاريكاتيري، للغرب المتكبّر، وللعلاقة المرضية التي يرتضيها بعض العرب مع الآخر. وليس أمضى من سلاح السخرية في تصوير العلل.