ينشغل الباحث والشاعر اللبناني شربل داغر (1950) في عدد من مؤلّفاته السابقة بتأصيل اللوحة وبداياتها في الثقافات العربية، وكذلك في تقديم معاينة تاريخية وتمثيلية لإنتاج الفن العربي والإسلامي وتشابكاته مع التراث واللغة والأدب كما في "مذاهب الحسن: قراءة معجمية تاريخية للفن العربي" (1999)، و"العين واللوحة" (2006).
في كتابه الجديد "الفن العربي الحديث: ظهور اللوحة" الصادر حديثاً عن "المركز الثقافي العربي" (بيروت/ الدار البيضاء)، يكمل مقارباته السابقة التي تقرن الفنون في العالم العربي بخطاب فكري فلسفي يعبّر عنها حتى يومنا هذا، ويدرسها ضمن سياقاتها الاجتماعية والمعرفية.
جعل الكتاب من "ظهور" اللوحة الزيتية موضوعه في حراك عثماني/ عربي/ أوروبي، إذ يرى أنها انتقلت، أو استُوردت، إلى هذه البيئات من خارجها، من المدن الإيطالية بداية، متفحصّاً دخول هذا العمل الفني الجديد إليها من المغرب الأقصى حتى بلدان الخليج.
يشير المؤلّف في تقديمه إلى أن "الكتاب تحقّق من أن دخول هذه القطعة لم يكن بالسهل أو بالهين، إذ "استقبلتْها" (أو اعترضت استقبالها) مواقف وقيم واعتيادات وسلوكات متأتية من أن الصورة، ولا سيما التمثيلية، تحولت إلى "مسألة" إسلامية، على مر العصور، في أحكام الفقهاء قبل سياسات الخلفاء أو الولاة. لهذا فإن "ظهور" اللوحة عربياً لم يكن فقط بالظهور الفني، بل كان أيضاً ظهوراً سياسياً واجتماعياً؛ وما رافق هذا الظهور من أحوال قبول واعتراض يعود إلى أسباب دينية واجتماعية، قبل أن تكون تقنية أو مهنية أو جمالية".
في هذا السياق، يتناول رحلة ما يمكن تسميته "توطن" اللوحة، بل الثقافة الفنية، بتقنياتها ووسائل ذيوعها واقتنائها وحفظها والنقاش حولها، وكيف ظهر في القصر والبيت قبل صالات العرض والمتاحف، وفي كتابات الرحالة والمؤلفين من أوروبيين وعرب قبل المؤرخين الفنيين.
يسعى الكتاب إلى التعرّف على قبول اللوحة وانتشارها، ليس بين الفنانين العثمانيين والعرب الناشئين وحدهم، وإنما قبل ذلك في مجتمعات، وبين أفراد كانوا، في عهود سابقة، "كارهين" (حسب العبارة المأثورة) لوجودها، وللمعاني والقيم التي تتمثل فيها، أو تحضر معها.
يوضّح صاحب "الفن والشرق: الملكية والمعنى في التداول" (2004) أن "ظهور اللوحة تعدى ظهور "قطعة" مربعة أو مستطيلة أو طولية، ملونة، فوق جدار، أو تُطوى وتَخفى عن الناظرين، إذ بدتْ لبعضهم مثل "غزوٍ"، أو "خرقٍ"، لمجتمعات بقيت "حصينة" (بمعنى من المعاني) طوال قرون، وذات مرجعية قيمية وجمالية تحتكم إليها من دون غيرها. هكذا أتى "الدخول" بطيئاً، محفوفاً بالاختلافات والارتدادات؛ وما بدا مطلوباً أو ميسَّراً في نطاق، مثل القصر أو القنصليات أو الكنائس أو بيوت الأمراء والأعيان، كان مكروهاً في نطاق آخر، ولا سيما بين الفقهاء، أو في "علانية" المجتمع".