حين تترسّخ المدارس الفلسفية والاتجاهات السياسية الناتجة منها، تكون أشبه بالسلطة التي تحكم المنتمين إليها، وتكون الأصوات اللامنتمية لهذا الاتجاه أو ذاك بمثابة أصوات تائهة.
يظهر المفكر الروسي نيقولاي برديائف (1874- 1948) في كتابه "العزلة والمجتمع" الصادر هذا العام عن "دار آفاق للنشر" بترجمة فؤاد كامل، بمظهر اللامنتمي الخارج لتوه من تجربة مؤلمة فلسفياً وسياسياً، سمحت له بالنظر من بعيد لكل ما انتمى إليه، ومن ثمّ يعمل على تفكيكه بهدوء.
يرصد الكتاب تجربة طويلة من الانشقاقات التي مر بها برديائف بداية من التعليم المسيحي في مدينة كييف التي كانت مركزاً دينياً أساسياً في شرق أوروبا، ثم التحوّل إلى الماركسية ومنهجها في البحث والنظر، قبل الانسلاخ عنها نحو المثالية وبداية مرحلة جديدة من مواجهة السلطات الشيوعية والديموقراطيين الاشتراكيين والفلاسفة الماركسيين ثم الفلسفتين الألمانية والإنكليزية.
يجري تصنيف برديائف باعتباره فيلسوفاً دينياً، وهو تصنيف ظالم ليس لكون الرجل قد رفض الخضوع للتصنيفات وبالأخص الدينية منها فحسب، بل لكونه انحاز لفكرة الفردية بمعزل عن الدين، حيث اعتبر المفكر الروسي الدين مساهماً رئيسياً في تقويض مبدأ الفردانية مع بداية انتشار فكر توما الأكويني (القرن الثالث عشر ميلادي).
صحيح أن برديائف ساهم في تأسيس "الجمعية الدينية الفلسفية" في مدينة سان بطرسبرغ، لكن ذلك كان في بدايات تشكله الفكري عام 1917 وكان الهدف منها مواجهة الثورة الروسية والحكومة الشيوعية من وجهة النظر الفكرية.
على مستوى آخر، انتقد برديائف الفلسفة الألمانية بشكل واضح، لأنه لم يرفض فقط كل النظريات التي تميل إلى المذهب الجبري واستعباد الإنسان، بل رفض أيضاً كل الفلسفات الأخرى التي لا تعطي للفرد والحرية الفردية أولوية شبه مطلقة.
يكتب قائلاً: "أميل إلى الاعتقاد أن الفلسفة الحديثة عامة، والفلسفة الألمانية خاصة، أشد مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط بسبب موضوعاتها الرئيسية وطبيعة تفكيرها ومن المستحيل تصوّر ظهور المثالية الألمانية خارج المسيحية".
في كتابه، نظّر برديائف لمصطلح "الإنسان المتوحش السعيد" النموذج الجديد للإنسان التي تخلفه الحضارة الصناعية باستعبادها للإنسان، والتي تفعل أكثر من ذلك حين تمضي قدماً في خلق إنسان يَقنَع باستعباده وهو يظن أنه يصل إلى السعادة (في جانبها المادي)، لكنه يتحول شيئاً فشيئاً إلى وحش وإن كان يشعر بالسرور والارتياح.
في أحد مقاطع الكتاب، يحلل المؤلف الأنا من منطلقات فلسفية ونفسية في تأملات ذات نزعة روحانية، وتضمّن هذا التحليل تفصيلات كثيرة بين أنواع العلاقات بين الأنا المتوحدة والبيئة الاجتماعية، حاول فيها المفكر الروسي أن لا يظهر انحيازاً لا إلى العزلة بشكل تام، وللخضوع المطلق للفائدة الاجتماعية.
من خلال ذلك، اختلف برديائف مع كثير من الفلاسفة منهم رينيه ديكارت، وخاصة في مقولته الشهيرة "أنا افكر إذاً فأنا موجود"، حيث اعتبر الأنا بدائية لا يمكن أن تستمد من شيء أو ترد إلى شيء، والأصوب بحسبه أننا محاطون من كل الجوانب باللانهائية التي لا يمكن النفاذ منها.
كان كتاب "العزلة والمجتمع" قد صدر في طبعة قديمة عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" عام 1979، ورغم ذلك لا يبدو له أثر كبير في الثقافة العربية، حتى مؤلفه بقي في ظل أسماء فكرية أخرى عاصرته. ربما حصل ذلك بسبب بعض خصائص الكتاب نفسه، فلم يكن برديائف حاسماً في اتجاه بعينه، فهو لا يريد أن يتورّط في أية أحكام أو يتحوّل فكره إلى دعوة لاعتناق توجّه بعينه، حتى أنه اختار أن يعنون فصول كتابه بـ"تأملات".