"لعبة التاريخ الكبرى، تتمثل في من يفوز بالقواعد، ويستأثر بها، ويستعملها في معنى مغاير، ويعكسها، لترتد إلى نحور الذين فرضوها". (ميشيل فوكو)
ما يقدّمه المفكّر العربي عزمي بشارة في كتابه الجديد "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟" ليس أقلَّ من مساهمة في بناء نظرية نقدية في "العنف الديني". وحين نتحدّث في هذا السياق عن "نظرية نقدية"، فنحن نعني بالضرورة طبيعة المقاربة التي يعتمدها في عمله. إنه يفكّك ظاهرة "السلفية" و"السلفية الجهادية" من خلال المجتمع لا من خلال الثقافة؛ فنحن أمام قراءة اجتماعية لظاهرة السلفية، وحتى حين يغامر بنا في سراديب التراث، فإنه لا يخرجنا، شأن التراثويّين، من الواقع، بل يُعيدنا إليه.
منذ بداية كتابه الصادر مؤخّراً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يؤكّد بشارة استحالة اشتقاق داعش من الإسلام، مؤكّداً بذلك، رفضه القراءة الثقافوية لهذه الظاهرة. إن أهمية قراءته تكمن، أيضاً، في كونها تُقدّم لنا نوعاً من "النقد المزدوج"؛ فالكتاب ينتقد السردية الغربية، الاستشراقية، العنصرية، والتي تؤسّس لإيتيولوجيا ثقافوية لظاهرة الإرهاب المسمّى إسلامياً، وترى أنه خرج من جبّة الإسلام، وهي السردية ذاتها التي تسيطر اليوم على الخطاب الغربي وترسم حركاته وسكناته في علاقته بالمسلمين... هذا الخطاب الذي سبق لمحمد أركون أن انتقده لأنه لا يأخذ الإسلام ودراسته بجدية. وبتعبير آخر، يمكننا القول بأن الإسلام داخل هذا الخطاب أو هذه الصورلوجية المغلقة، لا يستحق جهد المفهوم.
يكتب: "أقول إن الدراسات الاستشراقية محصورة معرفياً بالنظرة النمطية أو وجهة النظر التي تبني ثنائية شرق/ غرب، على فروق جوهرية معرفية، بل ممزوجة بالنزعة العرقية، والتي تخلّلت التاريخانية وعلوم الاجتماع واللغة والأنثروبولوجيا على الخصوص، أو ترى الإسلام (بـ "ال" التعريف) كائناً قائماً بذاته، ومركّباً في الظواهر وثابت الجوهر، يحوّل المسلم إلى "كائن ديني" فحسب!".
إننا، إذن، أمام حكم مسبَق، يُعيد الخطابُ إنتاجه باستمرار، وقد لا نحتاج للإقامة بين المحمّديين، لكي نحكم على هذا الخطاب كما أراد أن يفعل ذلك نيتشه يوماً، فنحن أمام خطاب لا يسافر، وبلغة أخرى أمام خطاب يحكم؛ حكم هو الحكم المسبَق، وقد أشار لينين إلى أن "الجهل أقرب إلى الحقيقة من الحكم المسبق".
ويتمظهر الحكم المسبق، أيضاً، في لغته وطبيعة المفاهيم التي يتوسّل بها، فالآخر، كما قلنا سابقاً، لا يستحق جهد المفهوم، وقد نكتفي باستبدال مفردة "القانون" في الكتابات التنويرية، لدى كانط وهيغل وفولتير والربوبيين الإنكليز وغيرهم حول اليهودية، بمفردة الشريعة، لنقول اليوم عن الإسلام ما قلناه أمس في اليهودية.
ولا ضير في أن نستعمل المفاهيم نفسها التي أُنتجها حول واقعي لأصف بها واقع الآخرين، فالكونية الخاطئة التي تحدّث عنها بورديو، تفصح عن نفسها أيضاً في اللغة التي تستعملها. وقد ضرب المؤلّف مثلاً على ذلك بمفهوم الأصولية المرتبط بالسياق البروتستانتي المعادي للالتباس، كما وصفه أحد دارسيه، السوسيولوجي دونالد ليفين في كتابه "الهروب من الالتباس" وعملية إسقاطه على الثقافة العربية ـ الإسلامية، في تناقض صارخ مع الحمولة الإيجابية لهذا المفهوم داخل هذه الثقافة.
إن الحكم المسبَق لا يشكّل الآخر وفقاً لحقيقته، إنه يحرمه من لغته أيضاً، حين يفرض عليه فهمه للسلفية باعتبارها جوهراً مطلقاً وثابتاً، وهو ما يفنّده بشارة من خلال حديثه عن سلفيات متنوّعة، مذهبية وإصلاحية وجهادية، وهو هنا يؤرّخ للظاهرة من خلال تحقُّقها في التاريخ، ولا ينحرف إلى تاريخ ما فوق التاريخ، الذي نعرفه من القراءات الثقافوية.
يوجه المؤلف، من جهة ثانية، سهام نقده للسردية السلفية نفسها، يفككها من الداخل، يفضح شططها في التعامل مع التراث الديني، ويقدم نقدا متكاملا للمذهب الوهابي، موضحا كيف أننا نقف أمام دعوة تخطئ بحق الماضي وبحق الحاضر، بحق الدين وبحق الإنسان، بحق الأحياء وبحق الأموات، وهي تعمد إلى التعصب لماض متخيل من جهة، وترفض كل أشكال الاجتهاد من جهة ثانية.
لقد كتب عبد الكبير الخطيبي في بحث موسوم بـ"المغرب كأفق للتفكير"، والذي نشر في مجلّة "Les temps Modernes" عام 1977، بأن "التقليدانية نسيان للتقاليد"، ما يجعل صناعة إسلام فقير أقرب إلى مصادرة ونفي للإسلام كحضارة وثقافة، وقد نضيف أيضاً وكأخلاق!
ولا ريب أن ما يميّز هذا الإسلام، أو بالأحرى هذا العبث الأيديولوجي بالإسلام، هو التعامل الانتقائي مع نصوصه الكبرى. إنه يمارس عنفاً على النص. ولم يبالغ المؤلّف وهو يكتب: "ليست المسألة إذاً الحفاظ على التقاليد والتراث؛ فالسلفية الجهادية بأسمائها ومسمّياتها المختلفة، كثيراً ما تعمل على هدمهما بمعول الإسلام النقي كما تتصوّره أو تتخيّله وتعيد إنتاجه...". وقد ربط بشارة السلفية الجهادية وتمظهراتها المختلفة بسياقها التاريخي، مفنّداً إمكانية الحديث عن "تاريخ أفكار مستقل" يقود إليها.
إن دراسة هذه الظاهرة اليوم انطلاقاً من ابن تيمية، كما تفعل الكثير من الجامعات الغربية، ضرب من الشعوذة والسحر، يختفي خلف خطاب عقلاني أو يدّعي العقلانية، إنه يُقوّل التراث ما لم يقله، وهو في تسييسه للماضي يزيّف أسئلة الراهن، لأنه يطرحها من خارج سياقها الاجتماعي ـ التاريخي، ويؤبّد وصاية المركز على الأطراف.
إن "الآلهة العطشى" التي أراد من خلالها أناتول فرانس محاكمة الإرهاب الثوري للثورة الفرنسية، تضرب بجذورها في رحم المعاناة الأرضية، ترابية هي، بلغة نيتشه. وهكذا، وبدلاً من محاكمة الاستلاب وطبيعة علاقات الانتاج، واستمرار علاقات التبعية بين المركز والأطراف، وتصدير الأزمات، والميثاق الكولونيالي الذي يؤبّد التخلُّف ومعه الاستبداد، يعمد الخطاب السلفي إلى الحديث عن ضرورة العودة إلى الماضي، في تماهٍ مع الدور النكوصي الذي اختاره له المركز؛ عودة تؤبّد غربتنا المستمرّة عن الواقع.
في تأكيده بأن الحركات الإسلامية المختلفة "ليست مجرّد نص أصولي يتكرّر منذ ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب وغيرهم"، يلتقي بشارة، لا ريب، بموقف السوسيولوجيا النقدية كما عبّر عنه بيير بورديو في مقال قصير بعنوان: "سوء استغلال السلطة الذي يتسلّح بالعقل أو يقوم عليه" (1998)، وفيه يسلّط الضوء على الكونية الخاطئة للعقل الغربي، ونزعاته الإمبريالية، التي تؤبّد لاعقلانيات الأطراف.
غير أن عزمي بشارة لا يكتفي بردّ الأعراض إلى المرض، أو لا ينحصر في إطار إثيولوجيا اجتماعية، بل يعمد، علاوةً على ذلك، إلى تفكيك "هوية" هذه اللاعقلانية. إن الأمر يتعلّق بهوية استئصالية، لا تعود إلى الماضي ولكن إلى ماض متخيَّل، ماض هو ابن الحاضر وتناقضاته. إنها عنف ضد الإسلام.
ولهذا يتوجّب، أيضاً، أن نعتمد التفريق المنهجي داخل السوسيولوجيا بين الدين والتديُّن، فصناعة السلف، تخيّله، جزء من الصناعة الثقافية للعصر النيوليبرالي، وهي تعبير عن تديُّن يرتبط صميمياً بسياق التخلُّف. لقد كتب سمير أمين أن "الشعوب المتخلّفة تفهم الدين بشكل متخلّف"، وأوضح في سياق آخر عمل النظام العالمي على تأبيد شروط التخلُّف في الأطراف، لهذا أيضاً لا يخطئ المؤلّف حين يرى أن مقولة "العودة إلى الدين" أيديولوجية، ولنقل أيضاً بأنها من طبيعة متخيّلة. إنه وهم عودة أو وهم أصل، إننا لا نعود. إننا نتخلّف.
لكن، حين يفتح المؤلّف أعيننا على الواقع، تتهاوى سردية العودة بكل طلاسمها وشطحاتها الثقافوية، وتسقط أقنعة أولئك الذين كتب عنهم الشاعر: "اختفى أبوك وراء النصوص، فجاء اللصوص"!