بصبرٍ دؤوبٍ وصرامة نادرة، أنجز محمد فؤاد عبد الباقي (1882 - 1968) أدقّ معْجم وأشمله لكلّ مُفردات القرآن؛ سواء أكانت طبيعتها اسماً أم فعلاً أم حرفاً. فقد دشّن هذا العالِم المصري، في درْس المعجم القرآني، منهجاً جديداً يُعنى بتوارد الألفاظ واشتقاقاتها وعدد كلّ مفردة منها، مع ذِكر موضعها في الآيات وترتيبها حَسب نَسق المُصحف. وتتضح قيمة هذا العمل إذا استحضرنا أنّه حتى علماء التراث الإسلامي، وعلى رأسهم الزركشي (1344 - 1392) في "بُرهانه" والسيوطي (1445-1505) في "إتقانه"، ورغم ما بذلوه من عظيم الجهود، لم يَسبقوا إلى مثل هذه الأبحاث ذات الطابع المنهجي- الإحصائي.
اعتَكف عبد الباقي، بأناةٍ وتجرّد، لوضع "المُعجم المُفهرس لألفاظ القرآن الكريم" (طُبع لأول مرة سنة 1942)، بعد أن قام بنفس الفهرسة لدواوين السنّة الصحاح، بحيث يمكن للقارئ أن يرى عدد مواضع ورود أيّ كلمة في "الذكر الحكيم"، مع إثبات الآيات التي وَردت فيها، والإشارة إلى رقمها ورقم السورة. فكلُّ مَدخل معجمي من هذا الكتاب كفيلٌ بأن يشكل لبنةً لدراسة سياقية لمختلف المقامات التي ترد فيها المفردات، وهو مما يُسهِّل الإحاطة بمعانيها وسائر استخداماتها وتعالقاتها النحوية، فضلاً عن تغيّراتها الصرفية.
وقد ولج محمد فؤاد عبد الباقي ميدان فهرسة ألفاظ القرآن الكريم من باب الترجمة، إذ كان الرجل يُتقن الفرنسية والإنكليزية. وسبق له أن ابتدأ مَسيرَته بنقل كتاب "تفصيل آيات القرآن الكريم" للمستشرق الفرنسي جول لابومو الذي نشره سنة 1934. لكنَّ هذا المعجم لم يكن وافياً بالمقصود، فعَقَد العزمَ على وضع معجم دقيق لألفاظ القرآن، يُرشد المطالعين إلى مواقع كل الآيات بالاستعانة بأيّة كلمة منها.
وأما المنهج العلمي المُتّبع في إنجاز هذا العمل، فتمثّل في إخراج كل الكلمات التي جاءت في القرآن، ثم ترتيبها حسب حروف المعجم، بعد ردّها إلى جذورها اللغوية، أكانت ثنائية، ثلاثية أم رباعية. ولعله استعان بكتاب "نجوم الفرقان في أطراف القرآن" (Concordantia: coraniarabicae) للمستشرق الألماني غوستاف فلوجل (1802 - 1870) المطبوع سنة 1842، متجاوزاً ما فيه من الأخْطاء والنقائص، ولا سيما في رد الكلمات إلى أصولها، وهو بابٌ كثير المزالق. وراجَع بعد ذلك ما جَمَعه على معاجم اللغة وتفاسير الأئمة وتأويلات اللغويين، عارضاً إياه على الراسخين من علماء اللسان، ولا سيما شيخه رشيد رضا. وكانت الثمرة معجماً شاملاً، جديراً بطلاوة النص القرآني وإعجازه. فَلم يَستدرك عليه أحد من العلماء سَقطاً فيه، من فرط المبالغة في التدقيق.
يُعد هذا الفهرس باكورةً للمنهج الإحصائي للمفردات (lexicométrie) الذي شاع في ثمانينيات القرن الماضي، وخصوصاً في مجال الأسلوبية، على يد شارل مولر وبيار لافون وغيرهما من نَقَدة الأدب الفرنسي؛ فقد سبقهما عبد الباقي بوضع هذا المعجم الشامل الذي يعرض ما يشبه الجذاذة الرقمية عن كل جذرٍ قرآني وعن جميع المشتقات منها.
وقد نشطت في العشرية الماضية مَدرسة الإحصاء على يد مستعربين أميركيّين وألمان وبريطانيين، بإشراف غبريال أرنولد ومَهدي عزيز، وهي تسعى إلى مقاربة النص القرآني من خلال ضبط أعداد الكلمات ومدى تواردها (occurrence) بالاستعانة بمفهومَيْ (Hapax) الذي يعني: ورود كلمةٍ ما مرّةً واحدة ضمن مدوّنة محدودة، وعددها في القرآن 248 مفردة، ومفهوم "المُتعاود"، الذي يأتي أكثر من مرة وبمعاني مختلفة. ولكن نوايا هذا المدرسة مريبة، فهي تتخذ كمُصادرةٍ بشريةَ القرآن وتاريخيته، وترى أنَّ القرآن من "تأليف" كُتّابٍ من أصول سريانية، صاغوه بعد العصر النبوي بعقود!
ولعل ما يعوز الآن، وهذا من شاقّ الأعمال وجليلها في إتمام هذا "الفهرس"، هو إعادة ترتيبه، لا بحسب نَظم السور في المصحف، بل بحسب ترتُّبها في النزول، مما يقدّم ملمحاً عن التطوُّر التاريخي، لكل كلمةٍ، على مدى ثلاثٍ وعشرين سنة، لدراسة صيغ الكلمات ودلالاتها المتحوّلة عبر الحقبة النبوية. ولندرك صعوبة هذا العمل، علينا أن نستذكر أنّ عدد كلمات القرآن بحسن إحصاء جلال الدين السيوطي 79439، و77784 مَعنَماً (Lexème) بحسب إحصاء رقمي حديثٍ.
ولا يمكن اليوم للباحث في تاريخ اللغة العربية وعلوم الإنسان وتطوُّر المفردات وتحقيق النصوص التراثية الاستغناء عن هذا المرجع الأساسي لما يوفّره من معلومات مُوثقة وإحصاءات دقيقة عن مفردات القرآن واختياراته المعجمية ومجرد ورود كلمة في القرآن دليل على حضورها ضمن التداول العربي إبان القرن السابع للميلاد. ولكن إلى أي حد يخضع الكلام الإلهي إلى مناهج الإحصاء ودلالات الأرقام؟ وهل تَكمن جماليته بين حسابات التعاود والتوارد؟