تقوم مجموعة الشاعر السوري عمر الشيخ الجديدة "قبل أن تمتلك الأرض" (نينوى للدراسات والنشر-2019) على مشهديات الحياة اليومية وحضور التفاصيل الصغيرة، وبشكل خاص التصوير المقلق والمضطرب للحرب. نلاحظ حضور السرد في أغلب نصوص المجموعة الممتدّة على 136 صفحة من القطع المتوسّط. يقول: "قلت للجرح أن يبتعد عن المقبرة/ ثمّ قلت لنفسي: هل أحدّثني؟/ الجرح لا يسمع، إنّه يبتلع العالم". هذه اللغة القاسية الممتلئة بالموت والدم والدخان تكاد تكون لغة موحّدة للشعب السوري بكامل أطيافه اليوم.
يُلاحظ أيضاً حضور المكان وحميميّته في المجموعة، حيث يرصد الشيخ تفاصيل المكان الذي يكتب فيه النص، التفاصيل الحيّة منها والميّتة: "أنامُ على حائطٍ في باب توما كنعوةٍ أنيقةٍ/ وحدي ضيفٌ قتيل"، أو: "زيد في حديقة الجريدة يمارسُ أفعال البستنة"، أو: "بيتها الكائن في قدسيا حديقة خيباتٍ وسقوط". أيضاً تحضر مسألة اللجوء أو النزوح أو الهجرة التي باتت تقضّ مضجع الإنسانِ في سورية، هذه الحركة التي يُجهل مصير الخارج منها بعد خروجه.
يعرّف أنسي الحاج قصيدة النثر في مقدّمة كتابه "لن" أنّ عليها احتواء الشروط الآتية: "التوهّج، والإيجاز، والمجانية". بل إنّه شدّد على هذه الشروط لاكتمال فكرة قصيدة النثر وعدم انزلاقها إلى قطع النثر غير المحمّلة بالشعر. وهنا نحن أمام ما هو أقرب إلى قصيدة النثر مع القليل من الخروج عن هذه الشروط، فالمجموعة المقسمة إلى جزأين "قصائد" و"نصوص" مكتوبة في مجملها بنفس الكتلة الواحدة المتماسكة، وإن تجد تفاوتاً في شعرية ما هو مكتوب هنا، إلا أنّ الوهج يبقى موجوداً على امتداد المجموعة.
لا ينبغي إغفال أمرين مهمّين عن مجموعة "قبل أن تمتلك الأرض"، أوّلهما تأريخ الشاعر لقصائد الجزء الأول وتحديد أماكن كتابتها، كما لو أنه يحاولُ تأريخ صور الحرب المرهقة وعدم إغفال أيّ تفصيل حول ذلك، فكلّ قصيدة أمامنا يُشار إلى مكان وتاريخ كتابتها (معظم القصائد كُتبت في جرمانا حيث كان يقيم قبل مغادرتها بين 2012 و2013)، كأنّ ما هو أمامنا رزنامة لصور الحرب كما ذكرنا، غير أنّ هذه الخاصية تختفي في الجزء الثاني المعنون بـ"النصوص"، وقد يكون ذلك رغبة منه في وضع النصوص على حواف زمكانية مختلفة، أو هو أمر مارسه قسراً بحكم خروجه نحو المنفى، والمنفى ثابتٌ لا تقلّبات فيه في نظر من ذهب إليه.
أمّا الأمر الثاني فهو أنّ الشاعر يستعين بعالم الطفولة المقهور في بلاده، فتراه واحداً من آلاف الأطفال يشاركهم حزنهم ودهشتهم وخوفهم، كما في قصيدة "يا أبي" حيث يقول: "مَن هؤلاء يا أبي/ إنّهم يشيرون للسماء ويضحكون/ أليسوا من هذه الأرض؟"، وأيضاً: "ألهو بتجميع أشلاء حلمي/ نسفوه هذه المرّة/ قبل أن يسألوا عن كلماتي يا أبي".
غير أنّه ما يلبث أن يجد نفسه مرتدياً لباس الوقار والكبر وكأنّه يلاحق الزمن حيث سيكون هو الشاهد الذي سيروي لمن بعده هذا الزمن وظروفه، فيقول أيضاً في "يا أبي": "أحسدك على سنواتك التي تعيش لأني أشيخ مبكراً جداً، وسأصبح من جيلك بعد أيّام". وفي نصّ آخر يقول، كمن يروي: "سيكون لك بيت وقذيفة ودموع أطفال وبعض الحواجز وصندوق صغير من الدبابات".
هنا إذاً محاولةٌ لوضعِ أرشيفٍ خاصٍ بهذه الحرب، أرشيف لا يمت بصلة إلّا لهموم ضحاياها، محاولةٌ لترك كلّ ما يمكن تركه عن هذه السنوات غير قابلة للمحو بسهولة بقدر ما هي أشبهُ بمفتاح قناني الشمبانيا، تدور وتنخر مراراً حتى تثقب الذاكرة.