تساؤلاتٌ كثيرةٌ حول طبيعة مستقبَل البشرية وشكله تُطرح بسبب ما يعيشه العالمُ هذه الأيام من قلقٍ جماعي بسبب تفشّي وباء كورونا الذي خلّف مئات الآلاف من الضحايا وركوداً في مختلف مجالات الحياة، خصوصاً في البلدان المتقدّمة، التي تمتلك قدرات تكنولوجية هائلة.
بعضُ تلك التساؤلات كان قد طرحها كتابُ ?Do Humankind's Best Days Lie Ahead، الذي حرّره كلٌّ من آلان دو بوتون وستيفن بينكر، وكأنه يستبق ما يجري اليوم، وها هي نسخته العربية تصدر ضمن سياق يزيد من مشروعية هذا النوع من الأسئلة والجدل. العمل صدر عن "دار نابو للنشر والتوزيع" في بغداد بعنوان "هل أفضل أيام البشر قادمة؟"، بترجمةٍ أنجزها الشاعرُ والمترجم العراقي نصير فليح؛ حيثُ يُقدّم وجهاتِ نظرٍ متباينةً حدّ التناقض حول مستقبل البشرية، لأربعة من باحثين ومنظّرين معاصرين.
يَستعرض الكتاب، الذي صدر بالإنكليزية عام 2016، آراء كلٍّ من الكاتب السويسري البريطاني آلان دو بوتون (1969)، ومواطنِه الكاتب والباحث مات ريدلي (1958)، المعروفِ بمؤلّفاته في مجالات العلوم والبيئة والاقتصاد، والباحثِ الكندي الأميركي المتخصّص في اللغويات وعلم النفس المعرفي ستيفن بينكر (1954)، والصحافيِّ والباحث البريطاني الكندي مالكوم غلادويل (1963).
وكانت هذه الآراء محور مناظرةٍ رباعية جمعت الكتّاب الأربعة في السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ضمن "مناظرات مَنك" Munk Debate، التي تُقام بشكلٍ نصف سنوي في كندا بحضور آلاف من الحاضرين. وتتناول هذه المحاضرات أبرزَ المواضيع المطروحة بإلحاحٍ في عالَم اليوم؛ حيثُ تبدأ باستطلاع الجمهور المشارك حول رأيه في الثيمة الرئيسية للمناظرة، ثمّ يُمنح وقتٌ محدَّد لكلّ متحدّث لإيضاح وجهة نظره والدفاع عنها، قبل أن ينخرط المتناظرون في محاججات مباشرة محدّدةٍ بالوقت هي أيضاً، لتُختَتم المناظرة باستطلاع الجمهور مجدّداً لمعرفة درجة تغيُّر آرائه وفي أيّ اتجاه.
وفي هذه المناظرة/ الكتاب، يُمثّل ريدلي وبينكر الطرفَ المتفائل بخصوص حاضر البشرية ومستقبلها؛ إذ يرى الأوّل أنّ "العالم لم يكن قطُّ مكاناً أفضلَ للعيش فيه كما هو اليوم، وسيستمر في التحسّن"، ويقول الثاني: "إنها حقيقةٌ أنّنا لم نعُد نرمي العذارى في البراكين. نحن لا نُعدِم الناس بسبب سرقة الملفوف، وقد كُنّا معتادين على ذلك".
وفي الجهة الأُخرى، يقف كلٌّ مِن دو بوتون وغلادويل، اللذين يمثّلان الطرف المتشائم أو المتحفّظ على تفاؤل الطرف الآخر، حيث يعتبران أن هذا النوع من الطرح التفاؤليّ يفتقر إلى رؤية شمولية لما يجري في العالم منذ عقود. يأتي هذا الرأي النقيض رغم انطلاق المتحاورين الأربعة من الإحصاءات والأرقام نفسها، غير أن كل طرف كانت لديه منطلقات معرفية مختلفة، وهو ما أدى إلى نتائج في شكل مواقف متباينة.
يرى دو بوتون أنه "لا يمكن لأيِّ شخص أن يخلو من العيوب، ولا يمكن أن تكون هناك نهاية للكساد والفوضى والموت"، بينما يذهب غلادويل إلى أنَّ "الفكرة القائلة بأنَّ الأشياء قد تحسّنت في الماضي وستستمرّ في القيام بذلك في المستقبل هي مغالطةٌ كنتُ أعتقد أنها تقتصر على الروافد الدنيا من وول ستريت".
لكن المتناظِرين الأربعة، رغم اختلافهم بين تشاؤُم شديد وتفاؤل مفرِط، يتناولون الموضوعَ من زوايا فكرية وفلسفية وتاريخية وعلمية واجتماعية، وبحججٍ معزّزةٍ بأرقام وإحصائيات دقيقة، وهو ما يكاد يكون غائباً عن الثقافة العربية.
حول ذلك، يقول المترجِم نصير فليح، في حديثه إلى "العربي الجديد": "تختلف هذه المناظراتُ عن الصورة التي أخذناها في ثقافتنا العربية عن المناظرات من خلال بعض المناظرات الإعلامية العقيمة غالباً، والتي تسودها مقاطعات لوجهة النظر المختلفة، بل يصل الأمر أحياناً إلى درجة تبادُل التخوين والاتهامات الجاهزة. هذا ما لا نجده بين المتحاوِرين في هذه المناظرة، رغم أنَّ الاحتدام بين طرفَيها قد يصل إلى حدّ التهكُّم والسخرية، ولكن في جوّ عامّ يتّسم بالإيجابية"، مضيفاً: "إحدى مشاكل ثقافتنا وفكرنا الرئيسية في عالمنا العربي تتمثّل في النفور الحادّ من الاختلاف وعدم تقبُّله، حتى بين كثيرين ممّن ينادون بذلك قولاً، لكنهم لا يستطيعون ممارسته فعلاً".
في المقدّمة التي كتبها للعمل، يَعتبر فليح أنَّ فَناء البشرية يُشكّل موضوعاً رئيسياً وشاملاً تمتدُّ جذورُه وتشعُّباته في كلّ مجال فكري وروحي واجتماعي تقريباً، لكونه يرتبط بالعلم والدين والتنوير والعقل والعقلانية والتكنولوجيا والفلسفة والأخلاق والسياسة والفرد والمجتمع والبيئة.
ويستعرض فليح، في مقدّمته، بشكلٍ موجَز، الجذورَ الفكرية للمواضيع التي شكّلت محاور رئيسية في الكتاب؛ مثل ترابُطية العالَم المعاصر وما يُمكن أن يترتّب عنها من تقدُّم أو مخاطر، وتغيّرات المناخ، والتهديدات الشاملة التي تُحدِق بالبشرية، وهي مواضيع يقول إنها "مطروحةٌ على مدى قرنَين من الزمان إلى يومنا الحالي"، مضيفاً: "هذه جوانب أصبحنا نشعر بوجودها بقوّةٍ أكبرَ يوماً بعد يوم، مِن فيروس كورونا مؤخّراً، إلى ما سبقه من حرائق غير مسبوقة النطاق في أستراليا أو الأعاصير والحرائق الشاسعة في الولايات المتّحدّة. هذا فضلاً عن احتمالات اندلاع نزاعات نووية وحروب إلكترونية، وما يُمكن أن تؤّدي إليه من كوارث مدمّرة".
ويلفت المتحدّث إلى أنّ بعض المنظّرين يُطلقون على المجتمَع المعاصر، الذي تعود بداياته تقريباً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، تسمية "مجتمع المخاطرة"، أو "مجتمع المجازَفة" risk society، في إشارةٍ إلى وجود عددٍ من الاحتمالات نادرة الحدوث، لكنَّ حدوث واحدٍ منها، أو بعضها، سيشكّل تهديداً حقيقياً للوجود البشري برمّته، أو لبلدان وقارّات بأكملها، بشكل أوسعَ نطاقاً من أيِّ وقتٍ مضى، وهو ما نُلاحظه اليوم مع ظهور فيروس كوفيد 19 وانتشاره على مدى عالمي، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك عرضياً أو مخطّطاً له، وفق تعبيره.
يُذكَر أنَّ نصير فليح باحث ومترجم عراقي، من مواليد بغداد عام 1962، حاصل على البكالوريوس في الهندسة المعمارية عام 1986. صدرت له قرابة 18 كتاباً بين التأليف والترجمة في مجالات الشعر والفكر والفلسفة؛ من بينها: "الفلسفات الآسيوية" (2013 لجون كولر، و"العالم كتصّور" (2015)؛ وهو الكتاب الأول من "العالم كإرادة وتصوّر" لـ آرتور شوبنهاور، و"كيركجارد: فيلسوف الإيمان في زمن العقل" (2018) لـ باترك غاردنر.