صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب بعنوان "التحوط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأميركية"، للباحثيْن المصرييْن علا رفيق منصور وأيمن إبراهيم الدسوقي.
تكمن أهمية الكتاب في محاولته تطوير نظرية التحوّط الاستراتيجي Strategic Hedging؛ كونها نظرية هيكلية جديدة في العلاقات الدولية، من خلال تطبيقها على دولة متوسطة، هي إيران، والتمييز بينها وبين المقاربات المماثلة في العلاقات الدولية مثل التوازن الصلد، والتوازن الناعم، والمسايرة، وغيرها.
يعمد المؤلفان إلى دراسة التحوّط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأميركية، ومقارنته بحالاتٍ لدول أخرى اتبعت استراتيجية التحوّط في سياساتها الخارجية، لمعرفة مدى نجاعة إيران في تطبيق هذه الاستراتيجية لتحقيق المرجو منها. توصَّلا إلى أن إيران تمكّنت باتباعها ذلك من حماية برنامجها النووي، والحفاظ على أمنها القومي بتجنّب خطر المواجهة المسلحة مع الولايات المتحدة، وتحقيق توازن داخلي وخارجي، وتعزيز مكانتها في المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط. في مقابل ذلك، عانت إيران ترديًا كبيرًا في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، أدى إلى تراكم ضغوطٍ داخلية كبيرة على نظام الحكم فيها، فضلًا عن تكاليف أخرى اضطرت إلى تحمّلها من أجل الاستمرار في سياساتها التحوّطية تجاه الولايات المتحدة.
إن نظرية التحوّط الاستراتيجي، بحسب الكتاب، تُعبّر في الأساس عن اتّباع منهج معتدل أو طريق وسطى تقوم على التوازن الناعم والتوازن الصلد، حيث تتعاون الدولة "المتحوِّطة" مع مصدر تهديد أمنها الوطني (الدولة/ الدول المهدِّدة)، لتجنّب التهديدات أو الدخول في صراعات غير متكافئة. وفي الوقت نفسه، تعتمد الدولة المتحوِّطة عناصر من التوازن الصلد في مواجهة الدولة/ الدول المهدِّدة، عن طريق تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية وزيادتها، والانخراط في تحالفات سياسية أو عسكرية مع القوى المنافِسة للدول مصدر التهديد.
بناء عليه، يستهدف التحوّط الاستراتيجي إيجاد موازنة بين استراتيجيتَي التوازن الصلد والتوازن الناعم، مع تجنّب المواجهة المباشرة مع الدول المهدِّدة في الوقت نفسه، ويُتيح للدول المتحوّطة ممارسة التوازن الإيجابي أو السلبي تجاه الدول الأقوى التي تُمثل تهديدًا لأمنها القومي. والعنصر الأساسي لفهم هذه الاستراتيجية المختلطة هو أن الدولة المتحوِّطة تحاول، أساسًا، تقليل تهديدات استقرارها والبقاء في عالم فوضوي Anarchic، وتأمين وضعها النسبي وليس تغييره.
تعبّر نظرية التحوّط الاستراتيجي عن اتّباع منهج معتدل يقوم على التوازن الناعم والتوازن الصلد
ويشير المؤلّفان إلى أنه من أجل تمييز سلوك التحوّط من غيره من أنماط سلوك الدولة الخارجي، طُوِّرت آلية من أربعة معايير على الدولة المتحوِّطة أن تستوفيها، وهي: تحسين القدرات التنافسية (العسكرية والاقتصادية)، و/ أو زيادة الاحتياطيات الاستراتيجية من السلع العامة؛ وتجنّب متابعة استراتيجية التوازن التقليدي بصورة صريحة تجاه الدولة المهدِّدة، بل الانخراط في علاقات تعاونية معها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وتخطيط استراتيجية التحوّط والتنسيق لها مركزيًّا على أعلى المستويات الحكومية؛ والاستعداد لقبول التكلفة المحلية والدولية لمتابعة التحوّط.
ويوضّح الكتاب أن السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة تتضمّن خليطًا من التعاون والصراع، حال دون حدوث مواجهة مباشرة بينهما، وفي الوقت نفسه حافظ على قدر من التعاون الأمني المحدود في بعض المجالات، ومن التعاون الدبلوماسي أيضًا في إطار المفاوضات الدولية، إضافة إلى حرص إيران على تكوين تحالفات استراتيجية وأمنية مع بعض الدول الكبرى، والحفاظ على قدرات عسكرية دفاعية وهجومية تضمن لها الحماية المناسبة.
واعتمدت إيران عناصر التوازن الناعم في علاقتها بالولايات المتحدة؛ إذ اختارت التعاون معها في المجال الدبلوماسي، وفي بعض المكونات الأمنية المحدودة، على نحوٍ واعٍ ومحدود، من غير أن يحدّ من حرية تصرفها واستقلاليتها. وفي الوقت نفسه، حاولت الحدّ من سياسات واشنطن وتقويضها من خلال استخدام الوسائل السياسية والدبلوماسية والمؤسسية. تُضاف إلى ذلك أشكال أخرى من التعاون الوظيفي غير العسكري الذي تمثل في الأساس في المفاوضات النووية التي بدأت منذ عام 2004 وحتى توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة، وذلك لتجنّب، أو لتقليل، التكلفة المحتملة للمواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.
كما يلفت الكتاب إلى أن الهدف من اختيار إيران الصين وروسيا حليفين استراتيجيين لها لم يكن تمريرًا أو تحويلًا لعبء الردع أو القتال ضد الولايات المتحدة إلى العضوين الأقوى في التحالف (أي بيجين وموسكو)، وإنما تحسين وضعها النسبي، ودعم أمنها القومي في مواجهة واشنطن. بعبارة أخرى، لم تسعَ إيران للركوب المجاني Free Ride على جهود التوازن الصلد للقوى الكبرى.
وسعت إيران لتعظيم مكاسبها الاقتصادية، من خلال روابطها التجارية مع كل من روسيا والصين، بغض النظر عن أي خلافات سياسية مع البلدين، ومن ثمّ حققت مكوّن البراغماتية الاقتصادية. أما في ما يتعلق بالمكوّن الثاني (الانخراط والمشاركة)، فقد أقامت إيران اتصالات مع القوى الكبرى، بل حافظت عليها، من خلال مشاركاتها في المنظمات الإقليمية، لإضفاء طابع مؤسسي على علاقاتها بموسكو وبيجين، إضافة إلى تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوقيعها خطة العمل الشاملة المشتركة مع الولايات المتحدة والدول الخمس الأخرى، لإضفاء طابع مؤسسي على تلك العلاقات.
وفي الحالة الإيرانية، لا يمكن أن نغفل الشخصية الإيرانية، وكذلك الفكر السياسي الذي يتّبعه نظام الثورة الإسلامية عند تحليل وتفسير استراتيجية طهران التحوّطية تجاه الولايات المتحدة؛ وهو ما أشارت إليه الدراسة بصفة مختصرة في ما لدى إيران من خبرة تفاوضية. ولعل التساؤل يُثار الآن حول مستقبل السياسة الإيرانية في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، خاصةً في ضوء انطلاق مفاوضات فيينا منذ نيسان/ إبريل 2021، بغرض إحياء الاتفاق النووي الإيراني وإعادة الولايات المتحدة إليه.