"الحياة الآثمة" لـ ماريز كونديه: أولئك المنفيّون خارج العِرق

22 أكتوبر 2022
ماريز كونديه، 1989 (Getty)
+ الخط -

رواية الكاتبة الغوادلوبية ماريز كنوديه (1937)، "الحياة الآثمة"، هي رواية أجيال تمتدّ على ثلاث مراحل مختلفة، لتنتهي مع الحفيدة التي تعيدُ عبر حكاية عائلتها ترتيبَ حكاية شعبها الذي يمثّلُ الانتماء للبشرة السوداء؛ إحدى سماته. لكنّه انتماءٌ آثم جعل من حياتهم حياةً آثمة، لكونهم شعبا مُسْتَعْمَرا. والرواية الصادرة بترجمة رندة بعث عن دارَيْ "سرد" و"ممدوح عدوان" (2021) صورةٌ غنية عن إِثمٍ زرعه المُسْتَعْمِر في أن تكون ملوّناً.

تدعو الراوية أجدادها بالأسلاف، وتصف شعبها بالعِرق، ما يحيلُ بصورة مباشرة إلى المسألة التي يعالجها الكتاب، وهي التمييز العنصريّ. إذ تدور أحداث الحكاية في مقاطعة فرنسيّة في إحدى جزر الكاريبي. لكنّ فضاءها أبعد من ذلك، فالرواية بحثٌ في تحييد البشر، في إدانتهم، وتحميلهم ما ليسوا مسؤولين عنه. لربّما ينشأ الشعور بالإثم من هذه النقطة بالذات، فالأسلاف عاشوا وهم يحملون وزراً فُرِضَ عليهم، وقد نمّت نظرةُ الأبيض/ الاستعماري عقدةً بالنقص لديهم. إذ كانوا مضطرّين للكفاح كي يحصلوا على الحقوق البدهيّة للبشر، كتكافؤ فُرَص العيش والعمل والتعليم وتحقيق الثروة. في الإطار ذاته تجدُ الراوية مسوّغاً لحكايتها، فهي بدورها رهينةُ كفاحٍ ما، ليست رهينةَ الانتماء للعرق الآثم بِقدر ما نراها رهينة دورٍ تؤديه نيابةً عن أسلافها. ولذلك نراها تسردُ الحكاية بدءاً من جذور الماضي البعيد. إنّها صوتُ الأسلاف، وروايتُها روايةُ مكتومين.

كونُ الرواية رواية مكتومين أمرٌ يفسّر للقارئ طبيعة الحيّز الذي تأخذه شخصيّتان مكتومتان. فالراوية تقصّ الحكاية نيابةً عنهما، وإجلاءً لحقائق المساواة. وهذا دورٌ لم يتوقّف الأدب عن لعبه. كما توظِّف الكاتبة فنَّ الرواية بصورة تبدو معها الكتابة عن موضوع محدّد بتعريفات واضحة، كالتمييز العنصريّ، موضوعاً قابلاً للاكتشاف والبحث والتقصّي، لا بل متعتهُ في الاكتشاف والبحث والتّقصي. فكتابتها دعوة لمشاركة القارئ عبر استخدام صيغ الاحتمال لإكمال فراغات السرد، وأيضاً عبر بناء الحكاية بصورةٍ يبدو أنّها تتنادى على تقاطعات كثيرة تلتئم حتّى بعد الموت الذي يظهر في الرواية أوضحَ من الحياة، وهو جزءٌ منها، ومن اندفاعاتها المظلمة. 

يدفع الآخرون بالسود إلى الاعتقاد بأنّ انتماءهم آثم

هكذا يكتشف القارئ مع الكاتبة موضوعاً كان يعتقد أنّه يعرفه. ويجد كيف تُطوّع الكاتبة الشكل لتقديم مقولتها عن العنصريّة. صحيحٌ أنّ الحفيدة كوكو تتحدّث عن والد جدها ألبير، ثمّ عن جدها يعقوب وعن والدتها، عن الأخوة والأخوات والزيجات والوفيات والولادات في العائلة الكبيرة، غير أنّها تجعل من شخصين مكتومين، لا يظهران بوضوح الآخرين، محورَ الحكاية.

الرواية ليست عمّا تُظهره الحياة، وإنّما عمّا تخفيه. ليست عن الذين يعملون في مدنهم، يكافحون، ويحاولون عبر السياسة والاقتصاد تحقيق مكاسب للعِرق، وإنّما عن الذين أقصاهم السود عن مدنهم، بسبب ارتباطهم مع البيض في علاقات حُبّ وعمل. من خيار الكاتبة في جعل النص ـ الذي يقع في 358 صفحة ـ يلتئم على شخصين لا يكادان يُذكران بعد أن أقصَتْهم جماعتهم بسبب الزواج من البيض؛ يتّضح أنّها لا تتحدّث عن جبهتين الأولى بيضاء والثانية سوداء، وإنّما تتحدّث عن مَنفيّين خارج انتماءين لهما النظرة نفسها، هي نظرة زرعها المُسْتَعْمِر داخل المُسْتَعْمَر.

الحياة الآثمة - القسم الثقافي

والرواية معالجة عميقة وإنسانيّة لقضية العنصريّة. إنّها ليست فقط ما تقول جهاراً، وإنّما تتحدث عن حياةٍ تنمو في الخفاء، في الظلّ، تتحدّث عن حياةٍ آثمة ليست حياةَ عِرقِها، كما يشيرُ مسار الحكاية المبدئي، وإنّما حياة أولئك المنفيّين الذين وسمهم البيض والسود معاً بعارِ تجاوز الانتماء، وكأنّما الرواية تقولُ الشيء وعكسه عبر جعل الشخصين المكتومين يشغلان الراوية أكثر ممّا شغلتها حياة عائلة بأكملها - حتّى كأنّما سيرة العائلة ليست إلّا هامشاً طويلاً لحياة الشاب الذي نُفي عنها إلى باريس، وتقريباً بقي مجهولاً هناك مع ابنه. وباستخدام هذا التحايل السردي أبقت الكاتبة على التمايز اللوني وكشفت عبره الثقافة التي زرعها المُستَعْمِر داخل الشعوب التي قهرها.

كما في كتاب فرانز فانون (1925 - 1961) "معذّبو الأرض" (1961)، لا يرث المُسْتَعْمَر فقط عنف المُسْتَعْمِر، وإنّما يرثُ الصورة التي يتركها له عن نفسه. وكان يمكن للراوية أن تعطي دوراً أكبر لأجيال الخلاسيّين الذين نشأوا من تزاوج العرقَيْن. ولكنّها أبقت حضور الخلاسيين خجولاً، فهي لا تريد من روايتها - وهذا افتراض - أن تكون مثالاً عن تآلف نتج تلقائياً وعلى صورة الطبيعة، وإنّما بَنَتِ الحكاية على التمايز الذي بقي قائماً بين العرقين، ثمّ في لحظة مشتركة ألغته الكاتبة؛ عندما أقصى السود سوداً اقتربوا من البيض، وأقصى البيض بيضاً اقتربوا من السود.

تكشف الرواية الآلية التي يخرّب بها البشر حيوات بعضهم

الرواية تقوم ضدّ جبهة الإقصاء التي تتجاوز العرق إلى الثقافة التي أنتجها المُسْتَعْمِر، ومن ثمّ أصبحتْ تُنْتِجُ ذاتها بصورة تبدو معها مستقلّة عنه، كما لو أنّ السود يكرهون أنفسهم بالفعل، لأنّهم سود. هكذا تكشف الكتابةُ الآليةَ التي يخرّب فيها البشر حيوات بعضهم، فالذات لا تكره نفسها من تلقاء ذاتها، وإنّما لأنّها ورثتْ مِنَ المُسْتَعْمِر الأبيض الطريقةَ التي تنظر بها إلى نفسها. 

إن كانت راوية الحكاية تبحثُ عن دور، فهو يجيء بعد هذا المقدّمة الطويلة. إذ تُعيد كوكو ترتيب ما استطاعت الوصول إليهِ من حكاية العائلة، كي تبحث عن شخصين مكتومين. ولم تكن الفصول الطويلة أكثر من مقدّمات ممتِعة وغنية تُظهِر عمق وعدالة وجمال حكاية شعبها، وفي الوقت نفسه تَنزع من المُسْتَعْمِر أعمق أدواته وأخطرها؛ أي: سرد التاريخ من وجهة نظره. ويمكن لرواية "الحياة الآثمة" أن تندرج ضمن الكتابة ما بعد الكولونيالية، إنّها نصّ غني لهذه النوعية من الدراسات. لكن، في الجانب الفنّي منها، إنّها حكاية آسرة عن المصير المكتوم للشخوص والجماعات، عن المصير الذي ينبتُ من الإقصاء، ثمّ ينمو ضدّ الإقصاء ورغماً عنه، وما يلبث أن يمتدّ ويُشكّل جوهر الحكايات كلّها.


* روائي من سورية

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون