مثّل التراث محور الانشغال الفكري للمثقفين العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مثل محمد عابد الجابري والطيب تيزيني وجورج طرابيشي وحسن حنفي، ومن ثمّ انطفأت جذوة هذا الاهتمام مع بدايات القرن الجاري. فهل قيل كلّ شيء حول التراث؟
في كتابه "الخطاب العربي في متاهات التراث"، الصادر حديثاً عن "دار الثقافة الجديدة"، يقدّم الباحث المصري جمال عمر محاولة في فحص المدوّنة العربية التي تناولت التراث خلال عقود.
نقرأ من مقدّمة الكتاب: "لنا قرنان نحاول أن ننهض، ونحاول أن يكون لنا موضع قدم على خريطة العالم، سياسيا واقتصادياً ومعرفياً. ومع كلّ كبوة أو هزيمة، كنا ننخرط في مراجعة للذات، ويكون حجم مراجعتنا بحسب فداحة التراجع وبحجم الهزيمة. لكنّ مراجعاتنا تبدو لي وكأننا نبدأ من منطقة الصفر كل مرة، وكأن لا خبرات تراكمية ولا وعي جمعي ولا تراكم معرفي يتكوّن. فنحن تقريباً نتجادل على نفس القضايا التي تجادلنا حولها في بدايات القرن الماضي، وكأن حركة التفكير عندنا هي حركة تفكير "محلّك سِرْ"، لا تخطو، ولا تتجاوز من مرحلة لأخرى".
ويضيف المؤلّف: "نحتاج إلى رؤية علائقية للمراجعات الفكرية التي تمّت في ثقافتنا وللمراجعين ولمؤلّفاتهم خلال القرن ونصف الماضيين، علائقية تربط بين الظواهر، وتربط بين المفكرين وسياقاتهم وللمراجعات وسياقاتها، علائقية تهتم بكيف تتراكب الظواهر؛ الفكري منها والثقافي مع ما هو سياسي/ اقتصادي/ اجتماعي. وكيف يتراكب خطاب المفكر مع جوانب خطابه بمراحله المختلفة مع الخطابات الأخرى التي يتوافق معها أو يعارضها أو يتجاوزها، أو يحاول تكرارها".
يؤكّد عمر أن هدفه من هذا الكتاب هو بناء "نظرة علائقية لخطابات المراجعات الفكرية التي تمت في ما بعد الهزيمة الكبرى عام 1967، والمراجعات التي تمت لهذه المراجعات من جيلين آخرين، ثم مراجعتي للمراجعات. ففي "مراجعات في ضوء الهزيمة" تناول علائقي لخطابي "التراث والتجديد" لحسن حنفي، وخطاب "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري، في علاقة هذه الخطابات بغيرها من الخطابات السابقة عليها والمعاصرة لها، وعلاقة كل خطاب منهما بالأخر، بل وعلاقة خطاب حنفي ذاته في سياق حياته ومجتمعه، وعلاقة خطاب الجابري بسياق حياته ومجتمعه".
يتابع عمر هذا المشروع من خلال "مراجعة جيل تالٍ مثل خطاب جورج طرابيشي لمراجعات خطاب "التراث والتجديد" وخطاب "نقد العقل العربي" من خلال مراجعاته "نقد النقد". ثم مراجعة جيل ثالث من خلال نقد علي مبروك لكل من جهود حسن حنفي ومحمد عابد الجابري وجورج طرابيشي. لأبني على كل هذه الجهود محاولة استيعابها نقدياً من خلال علاقاتها، لنصعد على أكتافها وعلى ما بنت لنرى أبعد مما رأت".