كثيرة هي الإجابات التي قدّمها المفكّرون والباحثون العرب حول أسباب فشل مشروع "النهضة العربية". وعلى الرغم من أن مرحلة النهضة شهدت ازدهاراً في المشاريع المعرفية - لم تعرفه الثقافة العربية منذ ابن خلدون على الأقل - فإنها لم تحقّق أهدافاً كانت على رأس قائمة الأولويات، مثل تجاوز الفارق الحضاري مع الغرب وإقامة أنظمة سياسية بعيدة عن شوائب الاستبداد وهدر كرامة المواطنين وتحقيق العدالة بينهم.
في كتاب "النهوض العاثر: الإصلاح والتجديد في الأزمنة الحديثة" ("المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، 2020)، نقف مع الباحث المصري محمد حلمي عبد الوهاب على محاولةٍ لفهم إخفاق أحد أهم هذه المشاريع التي طرحتها نُخَب عصر النهضة العربية على نفسها، ونعني إصلاح المؤسّسات الدينية، وأبرزها "الأزهر" في مصر.
لهذه الإشكالية التي يتصدّى لها عبد الوهاب بحثياً بُعدٌ ذاتيٌّ، حيث درس في الأزهر في تسعينيات القرن الماضي، حتى إننا يمكن أن نعتبر أن مقولة الكتاب تنطلق من "تحسّرٍ" على انقطاع مشروع إصلاح المؤسسة، جامعاً وجامعة، بحسب تعبيره. يقول عبد الوهاب: "اليوم وقد مضى على تخرّجي في جامعة الأزهر قرابة عشرين سنة، لا أزال أحمل بين جوانبي همّاً كبيراً، وأنا ألاحظ حجم التردّي الذي بلغته العمليّة التعليمية فيها (...)، فهل ينهض الأزاهرة الجدُد بعبء استكمال مسيرة الإصلاح والتجديد التي بلغت ذروتها على يد محمد عبده؟".
عبر هذا الطرح، نفهم أن همّ النهضة بالنسبة للباحث المصري ليس صفحة طواها الماضي. فما النهضة إلّا مجموعة من المشاريع المترابطة التي يمكن إحياؤها بفهم تركيباتها الاجتماعية والمعرفية، والوقوف على مواطن قصورها الأولى. وذلك هو المنهج الذي يقوم عليه الجزء الأكبر من الكتاب، حيث يعيد عبد الوهاب بناء الإطار التاريخي الذي تبلورت فيه طموحات إصلاح المجال الديني ومؤسّساته، عبر إضاءة العلاقات التي تربط بين المعرفي والسياسي (تجربة محمد علي باشا)، والعودة إلى الانشغالات الكبرى لمثقّفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ويبيّن المؤلّف هنا انسداد ذلك المسلك الذي يعتمد فيه المثقّف على مساعدة رجل الدولة من أجل الإصلاح، وهي وضعية يصفها الباحث المصري بشكل ساخر بأنها عبارة عن الاكتفاء بوضع العربة أمام الحصان.
نقدٌ للدائرة المغلقة التي ارتضاها التعليم الأزهري لنفسه
كثيراً ما يعقد عبد الوهاب المقارنات بين ماضي بعيد وآخر قريب (زمن دراسته في "الأزهر") ليضرب الأمثال على بقاء جهود الإصلاح مجرّد ملامسات لم تقدر على تثوير البُنى التي تعيد إنتاج التبعية والجمود. فهو حين يشير إلى أن مناهج "الأزهر" التي انتقدها محمد عبده كانت تعتمد على الشروح وتغييب أولويات مثل حقوق الإنسان وقيم العدالة واحترام الاختلاف، فإنه يؤكّد على أن تجربته كطالب في "الأزهر" عرّضته إلى نفس الإشكاليات.
يأخذ الكتاب في مثل هذه السياقات بُعداً نقدياً عاليَ النبرة، كأن نقرأ قول المؤلّف: "كان من نتائج الاعتماد على كتب الشروح وما تلاها أن تطرَّق الإبهام إلى المعاني الأصلية واضطربت المباحث (...) كما انصرفت همة أبناء الأزهر عن دراسة العلوم العقلية". وفي موضع آخر يشير إلى عدوانية البيئة الأزهرية للفلسفة، في امتدادٍ لطرح أبي حامد الغزالي من دون مراجعة موقفه الذي تجاوز عمره الألف عام.
وبأسلوب طريف، يرسم عبد الوهاب الدائرة المغلقة التي ارتضاها التعليم الأزهري لنفسه، فيكتب: "فترتْ همّة المتأخّرين من علماء الأزهر الشريف عن التأليف، فعمدوا إلى مصنّفات السلف فشرحوها، ثم عمدوا إلى الشروح فأعادوا شرحوها، وسمّوا ذلك حاشية، ثم عمدوا إلى الحواشي فشرحوها وسمّوا ذلك تقريراً، وعلى هذه الشروح المتأخّرة زمنياً والمنتَجة في مراحل الانحطاط حضارياً تدور رحى مناهج التعليم الديني في الأزهر إلى يومنا هذا".
أمّا أخطر ما يرصده المؤلّف، فهو احتكار الحديث باسم الإسلام قاطباً، واعتبار أن المذهب الأشعري يقدّم المنهج الصحيح الوحيد، منكراً كل حقّ لبقية المذاهب على تعدّدها وتشعّبها. هذا المنطق الذي تتعامل به المؤسّسة الدينية مع تغيّرات الواقع يجعلها مرتهنة إلى "قانون الإصلاح من أعلى" بحسب عبارة المؤلف، وهو عامل يفسّر به عبد الوهاب ظاهرة صعود الخطاب الإسلامي المتشدّد مع سيد قطب خصوصاً، وتفجير كلّ إمكانية للتعايش المشترك بين المذاهب ضمن المجال الديني، وبين مختلف مكوّنات المجتمع بشكل أوسع.
من هذا المنظور كان إهدار فرص تجديد المؤسّسة الدينية مقدّمةً لانهيار مشروع النهضة برمّته. ولعلّ حوار الطرشان الذي ساد الثقافة العربية بين المثقفين المنتمين للمجال الديني ونظرائهم من دعاة العلمانية كان سبباً في عدم بناء تشخيص متكامل لأسباب قصور مشروع النهضة العربية، فكلّ طرَفٍ كان يدّعي احتكار الحقيقة ولم يكن يمسك سوى بقطعة وحيدة من شظايا المرآة.
وعلى خلفية هذا الترابط بين أسباب تعطّل إصلاح المؤسسة الدينية والتعطّل الأشمل للأفق النهضوي، يقترح عبد الوهاب مسحاً لتشخيصات عدد من المشتغلين بالفكر، فيذكر إشارة المفكّر التونسي العفيف الأخضر إلى كون الإسلام المعاصر لم يرفع حتى الآن تحدّي العوائق الثلاثة التي أوردها المستشرق الفرنسي إرنست رينان (احتقار العلم الوضعي؛ رفض البحث العقلاني؛ خلط الروحي بالزمني). كما يعرّج المؤلف على إشكالية أخرى طرحها المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز، وهي "الرفض العصابي لأيّ حديث في الإصلاح الديني أو فتح موضوعه أمام تفكير علمي"، وهو ما يفرز مناخاً متوتّراً يضرب بشكل مسبق كلّ أمل في الوصول إلى تصوّرات حلول لتجاوز الانسداد والتعطّل.
يرى عبد الوهاب أن دفعة جديدة من دفعات الإصلاح في الأزهر (كرمز لمجمل المؤسّسات الدينية) قد بدأت تظهر ملامحها منذ "ثورة 25 يناير" (2011)، وهي لم تأت من الجهاز الإداري للمؤسسة - والذي يصفه المؤلّف بالمتريّث بطبيعته - بل من خلال انخراط الأزهريّين كأفراد ضمن الحراك الاجتماعي ومن ثمّ استشعار المؤسّسة لضرورة دخول مرحلة جديدة.
من زاويةٍ ما، يمكن اعتبار كتاب محمد حلمي عبد الوهاب تاريخاً لمؤسّسة "الأزهر" (تاريخٌ مسكوت عنه في كثير من وجوهه)، وإن لم يذهب عملُه إلى صيَغ الكتابة التاريخية بشكل صريح، فالقارئ هو من يركّب تاريخ الأزهر من المباحث المتفرقة التي يقاربها المؤلّف.
انتقال عبد الوهاب بين القضايا والمفاهيم والظواهر يرسم أيضاً ملامح لتاريخ تجارب الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي، وهو تاريخ لم يُكتب، ومن ذلك دراسته - ذات البُعد المفاهيمي - لأطروحات المفكّر الجزائري مالك بن نبي، ورصده لقضايا النهضة والإصلاح في بيئة إسلامية غير عربية، بالعودة إلى سجالات علماء الدين في شبه القارة الهندية خلال القرن العشرين.